رضي الله عن خالتي جمعة، إحدى لؤلؤات العمل الخيري، كانت عضو مجلس قرية تندرارة، يعرفها الجميع، تطرق بابها النساء والفتيات والرجال والشباب.
كانت -أطال الله في عمرها- قد سعت في تأسيس مركز في تندرارة تابع للتعاون الوطني، يوزع منه على الفقراء حليب الـ(USAID) والدقيق وغير ذلك من مواد غذائية.. كانت ومحسنين آخرين أيضا يشرفون على برنامج خيري محلي، وما أحوج المجتمعات إلى إحياء ودعم أشكال العمل الإنساني المحلية، والإبداع فيها! كان برنامج "الخبزة" عبارة عن قسيمة توزع على بيوت بعض الفقراء، يحصلون بها على نصيب معلوم من الخبز، من مخابز القرية.
تختبر المآسي إنسانية الإنسان، وتمتحن خيريته، وتنادي فيه بالمبادرة؛ وتستجيب المرأة بطبيعتها بأكثر من الحداد والعويل
كانت -أطال الله في عمرها- تسعى ما استطاعت لإيصال مرضى القرية إلى مستشفيات بوعرفة ووجدة البعيدة، عبر الحرص على توفير سيارة الإسعاف الوحيدة.. نشاط خيري إنساني استمر سنوات منذ أواخر القرن العشرين، نابضا بالتواضع والمحبة والاختلاط بالسواد الأعظم من الفقراء، لا ينظر إليهم من علياء المسؤوليات، وسماوات الفوارق.. اختفى – للأسف- في لمحة من بصر، بعد انتقال هذه الرائدة إلى مدينة أخرى.
تختبر المآسي إنسانية الإنسان، وتمتحن خيريته، وتنادي فيه بالمبادرة؛ وتستجيب المرأة بطبيعتها بأكثر من الحداد والعويل.. هرعت ممرضة غزة الشجاعة لإنقاذ جريح تحت وابل قصف الجيش الإسرائيلي، في مشهد شجاعة وإنسانية منقطع النظير؛ ولئن شحَّت الأخبار عن ذكر مواقف أخرى نسائية مماثلة، فإن ذاكرة العالم لا تشح من أخبار إنسانيات، اجتزن بكفاءة وفعالية اختبار الإنسانية في ساعات المآسي، هن لؤلؤات العمل الإنساني!. في هذا المقال رصد لثلاث منهن، تمثيلا لا حصرا، وأنّى لنا الحصر؟!
خرجت إيغلاتين جيب وشقيقتَها، توزع نشرة "طفل جائع"، وتنبّه إلى مأساة الأطفال، لتعتقل يومها بذريعة نشر دعاية معادية للوطن!
على إثر الحرب العالمية الأولى وما خلفته من مآس ودمار، خرجت إيغلاتين جيب وشقيقتَها، توزع نشرة "طفل جائع"، وتنبّه إلى مأساة الأطفال، لتعتقل يومها بذريعة نشر دعاية معادية للوطن! ولدت إيغلاتين جيب عام 1876م لعائلة إنجليزية ثرية، كانت محظوظة وقتها أن تلقت تعليمها في أكسفورد. بعد تخرجها، وحيث لم يكن متاحا يومها للنساء سوى قليل من الوظائف، اتجهت إلى تعليم الأطفال، ثم غادرت ذلك إلى العمل الخيري، حيث تبنت ومنذ عملها في "جمعية تنظيم الخير" (COS) مبدأ العمل الإنساني بناء على الحاجة لا الهوية. وعلى الرغم من أنها نشأت في بيئة مسيحية، فإنها تأثرت أيضا بفلسفة الحق الطبيعي وعالمية الخير، فصارت بحق إحدى لؤلؤات العمل الإنساني الكبرى.
أسست منظمة "أنقذوا الأطفال" (SAVE The Children)، أول منظمة معنية بالأطفال حول العالم، وتبنت مبدأ أن جميع الأطفال – بما في ذلك أبناء الأعداء السابقين- ينبغي إنقاذهم.. كتب مؤيدها الشهير، جورج برنارد شو، في ذلك الوقت: "ليس لديَّ أعداء تحت سن سبع سنوات". نقلت مقرها إلى جنيف، حرصا على الحياد، وازدادت فروعها في كل أنحاء أوروبا، وحصلت يومها على دعم البابا بنديكت الخامس عشر. وتعدّ اليوم رائدة البرامج الإنسانية المعنية بالأطفال، حيث توجد في أكثر من 110 دولة.
وعلى إثر واحدة من مآسي فلسطين، المأساة المتجددة المفتوحة، سافرت راشيل ريتشل مدفوعة بشعور إنساني عظيم نحو قطاع غزة، في يناير/ كانون الأول 2003، وهي في الثالثة والعشرين من عمرها. ولدت راشيل كوري، إحدى أعظم لؤلؤات المواقف الإنسانية، عام 1979، في أوليمبيا بولاية واشنطن، بالولايات المتحدة الأمريكية.. كانت طالبة في جامعة إيفرجرين ستيت كوليدج، وعضوة في حركة التضامن الدولية، التي تهدف إلى دعم الفلسطينيين في الأراضي المحتلة من خلال العمل المباشر والسلمي.
في 16 مارس/ آذار 2003، وقفت أمام جرافة عسكرية إسرائيلية في محاولة لمنعها من هدم منزل فلسطيني في مدينة رفح! كانت ترتدي سترة برتقالية فاقعة، وتحمل مكبر صوت لتنبيه السائق إلى وجودها.. رغم ذلك، دهستها الجرافة وتوفيت. تعتبر قصتها شهادة حية على خيرية وإنسانية الإنسان، وهي من المشترك الإنساني الذي ينبغي دعمه والبناء عليه، كما تعتبر شهادة حية على الطغيان والغطرسة الصهيونيين.
وعلى إثر الأزمة الجارية بغزة، كان العالم على موعد مع التعرف على لولوة الخاطر، الإنسانية التي ألهمت أعمالها هذا المقال، والتي لم تقعدها على الأرائك الوثيرة مسؤوليةُ وزير الدولة للتعاون الدولي التي تتقلدها، ولم تلجئها واجبات التحفظ السياسية إلى تبني اللغة الخشبية التي ينطقها كثيرون، واتخاذ المواقف الصنمية المنفصلة عن الإنسانية، التي يسير على نهجها الأكثرون.
صرحت أول ما دخلت قطاع غزة خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2023: "إننا وكل أحرار العالم معكم.. والحق والإنسانية معكم.. والله جلّ في علاه معكم"؛ وأضافت: "وايم الله يا أهل غزة لقد أحييتم الموات، وأيقظتم إنسانية العالم بعد سبات.. قبلكم كانت كل الكلمات جوفاء، وكل الحكايا مكررة، وكل معاركنا اليومية تافهة، وكل الخطابات والبيانات لا معنى لها… ثم جاءت غزة لتعيد ترتيب أولويات هذا العالم، ولا أبالغ إذا قلت: إنكم اليوم تعيدون لنا جميعا إنسانيتنا التي سلبت منا أو ربما نسيناها". وأكدت أن سكان القطاع هم اليوم من يدفعون "ثمن فضح ازدواجية المعايير، ثمن كسر آلة الاحتلال المتغطرسة، ثمن المنافحة عن مقدسات مليارات من المسلمين والمسيحيين حول العالم".
إننا إن نقفْ لحظة لتأمل هذه العبارات، مقرونة بأفعال دخول القطاع المحاصر في ذروة العدوان، ومتبوعة بأعمال إنسانية رائدة في وقتٍ تخاذلت فيه دول، شملت ترحيل جرحى للعلاج في قطر، وإدخال مساعدات مهمة للقطاع، واحتضان الصحفيين وعائلاتهم وتبني قضاياهم، على رأسهم وائل الدحدوح، وغيرها من الأفعال والمبادرات الإنسانية؛ ينكشفْ لنا معدن لؤلؤة من أعظم إنسانيي العالم اليوم بلا مبالغة.
من جرائم المجتمعات الفادحة، خاصة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وجرائم الرجل القادحة، خاصة الرجل الشرقي، أن تظل هذه القصص موؤودة عن الحياة والظهور؛ لا توثّق ولا تذكر
هذه القصص والتجارب النسائية الإنسانية دروس جديرة بالتأمل والاستلهام؛ فالمرأة بعاطفتها الإنسانية العظيمة، وحرصها الكبير على الخير، تظل منبع عطاء ثري، ومصدر خيرية لا ينبض، ومظنة مواقف قوية.
من جرائم المجتمعات الفادحة، خاصة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وجرائم الرجل القادحة، خاصة الرجل الشرقي، أن تظل هذه القصص موؤودة عن الحياة والظهور؛ لا توثّق ولا تذكر، ولا تكرم ولا تشكر.. في دلالة على ذكورية متسلطة عفا عليها الزمن، أولى بها أن تستلهم من التوجيه النبوي حسن خلق، إذ لا يكرمهن إلا كريم، ولا يهينهن إلا لئيم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.