شعار قسم مدونات

المدد القرآني في لوحات أبي الطيب!

blogs - المتنبي
لا يكتفي المتنبي في أن يستقرض من النص القرآني بل يحاول أن يجعل الأمر ويكأنه يخرج من مشكاة واحدة (مواقع التواصل الاجتماعي)

يكثف أحمد بن الحسين المادة الشعرية بتنخب الموارد التي يوردها بناء قصيدته الشعرية، بل قلعته الشعرية، فهو يحافظ على ععلو كعب اللفظ، ويضبط بوصلة المعنى بإبرة الكلمة، حتى لكأنك تحار بين أن تطرب للجرس العالي، أو أن تغوص في المعنى الراقي، وهنا ينفرد أبو الطيب في هذه التوليفة العجيبة من خلال ضبط الإيقاع على النغم القرآني، بل تجد البيت يقف على قرار مكين من وزن شعري منضبط واكتناز للهالة القرآنية، ولا يكتفي أبو محسد في ذلك؛ بل يرقى الجبال مصاعدا ترقى به ويعاف للمتحدرين سهولا.

لَو كانَ ذو القَرنَينِ أَعمَلَ رَأيَهُ

لَمّا أَتى الظُلُماتِ صِرنَ شُموسا

والسطور المقبلة إليكم، سنجد فيها إحدى أدوات السحر عند أبي الطيب، حيث يتأنق الحرف بين يديه ليرفعه -محاولا- إلى مصاف القداسة والخلود، لأنه يقبس من النص الخالد، ويحاول قربا منه، فيجمع كفيه في ليلة شتائية باردة، وينفخ فيها مرددا الآيات التي ستعينه في هذه القصيدة، ثم ينفخ في فضاء روحه هواء يصعد على شكل لوحة تقترب من التحفة وتقارب التمثال، فيبقى القارىء بها مشدوها من هول المشهد، مأخوذا بها بالقوة والطلب.

ويستمر المنشد لها مكانه لثقل الحرف والكلمة، ويمكث المردد لأبياتها مأخوذا بالقدرة العجيبة على جعل النص القرآني مادة النهوض بالقصيدة، دون تكلف ينقل الحالة الشعرية العظيمة إلى وعظ رتيب، فنجد أبا الطيب في سينيته المرقصة، للقارىء والسامع على حد سواء، يطرب لها، بل ويمكث متأملا كمن يتشهى وجه من عشقا، كما في بيانه واصفا ممدوحه بالعالي من القول الذي يقصر عنه الممدوح فيقول:

إعلان

لَو كانَ ذو القَرنَينِ أَعمَلَ رَأيَهُ .. لَمّا أَتى الظُلُماتِ صِرنَ شُموسا

أَو كانَ صادَفَ رَأسَ عازَرَ سَيفُهُ .. في يَومِ مَعرَكَةٍ لَأَعيا عيسى

أَو كانَ لُجُّ البَحرِ مِثلَ يَمينِهِ .. ما اِنشَقَّ حَتّى جازَ فيهِ موسى

أَو كانَ لِلنيرانِ ضَوءُ جَبينِهِ .. عُبِدَت فَصارَ العالَمونَ مَجوسا

في الأبياتِ من قصيدته العجيبة، دقق النظر في الجرس العجيب، أو التماس المباشر مع موسى -عليه السلام-، أو عيسى -عليه السلام- أو ذي القرنين، بل وتجده ينهد بكل طاقته العربية لكي يضع له قدما على طريق شقها ورصفها بعبقرية فذة.

حرف السين في السيوف، وذاته في الحسن، يجتمعان فينقدحان ويلمعان ويشكلان شهب المساء، بل يبرقان في صباح يوم يردد فيه القارئ المتبتل من سورة التين من الآية الرابعة (لَقد خَلقَنا الإنسانَ في أحسَنِ تقويمٍ)

وهنا في مشهد قرآني شاعري آخر، نجد أبا الطيب يقبض على القصيدة باليسرى والقرآن باليمنى، ويصعد بهما إلى حيث يقول:

أَشمَتَ الخُلفُ بِالشَراةِ عِداها .. وَشَفى رَبَّ فارِسٍ مِن إِيادِ

وَتَوَلّى بَني اليَزيدِيِّ بِالبَصـ .. ـرَةِ حَتّى تَمَزَّقوا في البِلادِ

وهذه إشارة في منتهى الذكاء إلى قوله تعالى في سورة سبأ في الآية الـ19: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).

وفي مضمار آخر، لا يكتفي أبو الطيب في أن يستقرض من النص القرآني من يلبي له ظمأ القصيدة إلى النور، بل يحاول أن يجعل الأمر ويكأنه يخرج من مشكاة واحدة فتأمل معي هذه اللوحة لأبي محسد:

قَد زُرتُهُ وسيوفُ الهندِ مُغمَدَةٌ .. وقد نظرتُ إليه والسُيوفُ دَمُ

فَكانَ أحْسنَ خَلق الله كلِّهِمُ .. وكانَ أحسنَ مافي الأحسَنِ الشِّيَمُ

حرف السين في السيوف، وذاته في الحسن، يجتمعان فينقدحان ويلمعان ويشكلان شهب المساء، بل يبرقان في صباح يوم يردد فيه القارئ المتبتل من سورة التين من الآية الرابعة (لَقد خَلقَنا الإنسانَ في أحسَنِ تقويمٍ) وكذلك السين في الإنسان والحسن.

ومن هذه النماذج التي تشير من بعيد إلى علو النص القرآني السامق، ومن هذه النماذج نجد أن أبا محسد يحاول أن يطاول تلك السماء بما يملك من حب للعربية ولخالقها ولقرآنه.

الإحساس باللغة لن يتأتى بقراءة الهش من القول، بل بقراءة من شهد لهم أعداؤهم قبل محبيهم بالنبوغ

وهنا نقف على رباعية تربوية نلمحها في هذه التجربة الشعرية الفريدة:

إعلان

القرب في الحياة من الكبار يكسب الجيل من تجربتهم، وتعلقهم بهم يعطيهم بعض عظمتهم. الإحساس باللغة لن يتأتى بقراءة الهش من القول، بل بقراءة من شهد لهم أعداؤهم قبل محبيهم بالنبوغ. تقوية الحافظة بمدها بهذه النماذج الشعرية يجعل الطلاقة اللغوية والقدرة التعبيرية ميزة حاضرة في حياتهم العامة والخاصة. القرب من النص القرآني يكسب الجيل إيمانا قائما على الحب والجمال والراحة؛ لأن القرآن في ذاته وأصل تنزله، مادة بلاغية وبيان، فكل من اقترب منه على وسيلة الشعر وجد فيه بغيته من أجمل الطرق.

تلك كانت محاولة لمد حبل الحب، حاولت بها أن أقرب الجيل إلى أبي الطيب بل إلى اللغة التي نحب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان