كانت ذات سعة من المال وصاحبة بسطة في الدعة، تتفقه كثيرا في أمور الأزياء، وتتقن علوم الأناقة، وتعلم أحكام الموضة العصرية، وتعرف سيرة نجوم الفن، وتحيط بمسيرة أعلام السينما، وتحفظ -عن ظهر قلب- أسماء مشاهيرهما.
كما كانت لها -بالتوازي- دراية واسعة بجديد الأذواق في عالم الموديلات، واطلاع شامل على آخر الصيحات في دنيا الماركات، أما أمور الدين وأحكام الشرع فقد كانت لا تعبأ بالمعلوم منها بالضرورة، ولا تولي الفقه بالا، غير أنها -وذلك مبلغها من المناعة- لم تك تتصنع التدين المظهري السطحي، ولم تكن تفتعل الالتزام النخر المجوف.
في حلق الذكر والتذكرة -متنزل الرحمات ومستودع الحسنات، فإن غيابها لم يكن سيئتها الشنعاء، بل كان إثمها المضاعف بغض الذاكرين وافتراس لحم الحاضرات، والنظر إليهن بعين ازدراء حمراء.
كانت تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وتظن أن التأدب بالستر والمحافظة على الحشمة إصر يثبط نشاط عمل الفتاة، ويضيق مساحة حركتها، ويصادر حرية تنقلها، وينقص من قيمتها، ويبتذل أنوثتها!
وفي صالونات الاجتماع الروتينية المتهتكة، وعلى طاولات حديثها الجانبي العابث كان الولوغ في أعراض الناس وهمز الخيرين موضوع "دردشتها"، وكانت السخرية من الملتزمين وسلق المحصنات الغافلات المؤمنات عنوان غلاف حديثها، تسيح فيه مد لسانها السليط البذيء!
أما في حلق الذكر والتذكرة -متنزل الرحمات ومستودع الحسنات، فإن غيابها لم يكن سيئتها الشنعاء، بل كان إثمها المضاعف بغض الذاكرين وافتراس لحم الحاضرات، والنظر إليهن بعين ازدراء حمراء.
ولم يكن يماثل شراستها في الاندفاع إلا قساوتها في الهجوم؛ حيث لا يسلَم المرء -ولا تنجو المرأة- من بأسها في حال نصحها، ولا سيما إذا تعلق الأمر بمن يذكرها الموت ويخبرها أن الدنيا دار فناء وأن الآخرة هي دار القرار.
كان هيجانها العصبي الطاغي يدمر كل صوت تدين في وعيها، ولكنه كان مصحوبا بتوتر شعوري غامض، وكانت حين تعود إلى نفسها -وترجع إلى ضمير فطرتها- تحس أن توترها المصاحب قد يرسي بحياتها على بر أمان -ذات صحوة ما.
وزاد من إحساسها الكامن إدراكها أنها لم تكن تعاني أزمة نفسية على صعيد الجمال، فقد كانت على مستوى من الحسن غير قليل، يهد صبر الراهب ويهبط به من صومعة التبتل إلى قاع السقوط!
وذات نظرة استثنائية -في المرآة- غلب صفاء فطرتها ارتكاس غفلتها فأدارت في رأسها فكرة استشعار نعمة الله عليها، وبدا لها -وقد رأت الآيات- أن تشكر لربها، واكتشفت -وهي الجاهلة بتقاسيم القافية وشؤون الوزن العروضي- أن بين الجمال والحلال نصابا حرفيا متكافئا، وإيقاعا وزنيا متناسقا، فرغبت في صون الجمال، وأحبت أن تستثمر في الحلال، لعل حسنة الأخير تمحو سيئة ما مضى من ضد ومن صد ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رحِيم﴾.
هنا استقر بها المطاف على بر الاستقرار النفسي المنشود الذي اكتشفت أنه لم يكن يحجبه عن قلبها الشفيف إلا غشاوة عمه استحبت -تحت تأثير مخدرها- العمى على الهدى، لما أكبت على المعصية وأغفلت المعية، وهنا -أيضا- استعادت من شريط ذكرياتها خطوات شيطان الصد عن سبيل الله، مسترجعة اللقطات والصور وفق تسلسلها الزمني، فادكرت -بعد سبح طويل- أنها كانت لها قرينة بلغ من تأثيرها عليها أنها أوتيت مَلَكة احتوائها -خالصة لها من دون الناس- بحيث كانت تتحمل نصحها -في ذات الله- وتصبر على توجيهها مكرهة لا بطلة، لما تكنه لها من إعجاب وتقدير لم ينقطعا بنأيها عنها، رغم سفرها القاصد وانقطاع خبرها، فقررت أن تبحث عنها وتملأَ سمعها وقلبها من كأس نصحها وتوجيهها، بطلة لا مكرهة هذه المرة.
لما أفاقت تمثلت في ذهنها -من شريط الذكريات- لقطة "بالأبيض والأسود" تحدثها فيها "المهتدية السابقة" وهي تعظها قائلة: إن إثم الإدلال بالعمل يفضي بصاحبته إلى زلة القدم بعد ثبوتها، وإن الإنابة والاستقامة توفيق، وإن العبرة -في النهاية- بحسن الخاتمة.
وضاعف إحساسها بالشوق إلى قرينتها بعد الشقة المكانية وطول العهد الزماني، فقررت أن تكافئ نفسها بالبحث عن جليستها الصالحة التي كانت من بيت تقوى ودين.
وبينما هي تستعرض آخر محطات عهدها بها، مر على بالها موقف لم يستوقفها في حينه، لكنه -فجأة- ملأ عليها أرجاء كيانها لما تذكرته!
كان ذلك بعد منصرف لها من مجلس صالح وموعد ودي في بيت قرينتها الأثيرة لتلتقط أذنها -دون قصد تسمع- كواليس حديث صرحت به القرينة لصويحباتها حين تاهت بما عندها من رصيد الصالحات وأدلت به، وتألت على الله أنها أقرب من "صديقة السوء" إلى أجر الآخرة وثواب الخير، وقاسمتهن أن جلباب الحياء الذي ورثته بنتا عن أم عن جدة يلعن كل خطوة مشتها إلى الإثم والشر قدما تلك المتبرجة المترفة!
استغرقت عملية استعادة الموقف وتكرار لقطته مسافة السكة التي انتهت بوقوف "العاصية التائبة" على عنوان صديقة الخير بالأمس، فتنفست الصعداء وهي تسر في نفسها ذلك الموقف المؤثر؛ لا تريد أن تصعق به "أختها المستقيمة"، ولكنها وجدت نفسها على موعد مع صدمة صاخة ستشغلها عما كانت تحمله لقرينتها من خالص الشعور وصافي المودة، لقد وجمت وخرّت مغشيا عليها بعدما جاءتها الصعقة التي كانت تريد أن تدرأها عن "أختها الضائعة" التي اقترفت -في عمر الانقطاع الطويل -وسنين الغياب السحيق- كلّ ما كانت تُعيّر به أختَها "الضائعةَ السابقة"؛ فانعكست الصورة وتبدّل المشهد، ولما أفاقت تمثلت في ذهنها -من شريط الذكريات- لقطة "بالأبيض والأسود" تحدثها فيها "المهتدية السابقة" وهي تعظها قائلة: إن إثم الإدلال بالعمل يفضي بصاحبته إلى زلة القدم بعد ثبوتها، وإن الإنابة والاستقامة توفيق، وإن العبرة -في النهاية- بحسن الخاتمة.
- ملاحظة: أحداث هذه الأقصوصة غير حقيقية، لكن جوها العام مستنبط من واقع الحياة، وعقدتها وخاتمتها مستوحاة من المأثور النبوي الإسلامي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.