عقد قادة الجزائر وتونس وليبيا يوم 22 أبريل الماضي في العاصمة التونسية لقاءهم التشاوري الأول، وأصدروا بيانا ختاميا دعا إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين دول "حلف شمال أفريقيا"، وإلى التعاون في التصدي للتحديات المشتركة كالهجرة وأمن حدود البلدان الثلاثة والحد من التدخلات الخارجية في ليبيا.
رأى مراقبون أن اللقاء الثلاثي إعلان شبه رسمي لوفاة اتحاد دول المغرب العربي الذي تأسس فبراير 1989، ولم يستطع قادته المؤسسون ومن جاء بعدهم تحقيق "الأهداف والمهام" المعلن عنها في مراكش، ولا تفعيل لجانه المختصة بالأمن الغذائي والاقتصاد والتنمية البشرية.
جاء مؤتمر طنجة دعما لثورة الجزائر لنيل استقلالها بعد استقلال تونس والمغرب، وبعد استقلال الجزائر وأزمة حرب الرمال 1963، أنشأت الدول الثلاث الجزائر والمغرب وتونس المجلس الاستشاري المغاربي الدائم عام 1964 لتنشيط العلاقات الاقتصادية وتنسيقها
تاريخ من الاتحادات المجهضة
إعلان وفاة اتحاد دول المغرب المغربي ليس بالأمر السهل في الذاكرة المغاربية، فقد تأسس هذا الاتحاد ليقضي على الخلافات البينية بين الدول الشقيقة، وليكون امتدادا لنضالات المغاربة الموحدة ضد الاستعمار الفرنسي، وهو النضال الذي اتخذ بعدا إقليميا مؤسسيا منذ مؤتمر المغرب العربي في القاهرة فبراير عام 1947، ثم انعقد بشكل أكثر زخما في مؤتمر طنجة أبريل 1958 بمشاركة الأحزاب الرئيسية حينها في كل من المغرب والجزائر وتونس.
جاء مؤتمر طنجة دعما لثورة الجزائر لنيل استقلالها بعد استقلال تونس والمغرب، وبعد استقلال الجزائر وأزمة حرب الرمال 1963، أنشأت الدول الثلاث الجزائر والمغرب وتونس المجلس الاستشاري المغاربي الدائم عام 1964 لتنشيط العلاقات الاقتصادية وتنسيقها، وضمان حرية التبضع الصناعي بين الدول الأعضاء، ومواجهة السوق الأوروبية، والتحقت بهذا المجلس فيما بعد كل من ليبيا وموريتانيا ليكون النواة الأولى لاتحاد المغرب العربي في بنيته الخماسية.
كانت الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء كفيلة بإنهاء هذا الحلم المغاربي فانعكست على دوله أجواء الإقليم المتوتر والاصطفافات الدولية للبلدين الرئيسين فيه الجزائر والمغرب، فقد كانت الجزائر تقدمية تتجه يسارا بتقدم، بينما كانت المغرب المحافظة تنظر جهة اليمين.
وما حملته بداية السبعينات من بشريات بإمكانية النهوض المغاربي المشترك كانت حرب الصحراء الغربية التي اندلعت 1974 كفيلة بإجهاضه إلى الأبد بسبب موقف المغرب والجزائر الحدي أو الوجودي من قضية الصحراء التي أصبح الموقف منها بوصلة موجهة للمواقف والسياسات الخارجية للبلدين.
أشهر الجهود الشعبية (جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين) التي أسسها طلبة من المغرب وتونس والجزائر في باريس عام 1927، وقامت بأدوار سياسية واجتماعية وثقافية في إطار هدفها الإصلاحي والتحرري الكبير.
اتحادات شعبية
قبل المحاولات الرسمية المجهضة لإيجاد اتحاد مغاربي يحقق تطلعات شعوب المنطقة في الوحدة والنهوض والتكامل كانت هناك جهود شعبية للمحافظة على الاتحاد الفكري والثقافي والروحي الذي قام بين أبناء المغرب الكبير بقرون مع الأندلس قبل أن يبتلعها الغول الأوروبي.
وأشهر تلك الجهود الشعبية "جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين" التي أسسها طلبة من المغرب وتونس والجزائر في باريس عام 1927، وقامت بأدوار سياسية واجتماعية وثقافية في إطار هدفها الإصلاحي والتحرري الكبير.
جعل مؤسسو الجمعية من سياستهم في توطيد وحدة أقطار المغرب العربي أن مؤتمرها السنوي كان ينتقل بين المدن المغاربية فعقد مؤتمرها الأول في تونس 1931، والثاني في الجزائر 1932، والثالث في باريس 1933، والرابع في تونس مجددا 1934، ثم في الخامس في تلمسان بالجزائر 1935، ولم يوفقوا في عقد مؤتمر بالمملكة المغربية كما أن موريتانيا وليبيا حينها لم تلحقا بالركب المغاربي.
سيطر الهم الثقافي والإصلاحي على مؤتمرات الجمعية فشكل المؤتمر الأول لجانا للتعليم العالي والتعليم العربي والتعليم الصناعي وتعليم المرأة، وكان يجلس على منبر الجمعية في هذا المؤتمر أحمد بن ميلاد (1902-1994م) الطبيب والمناضل التونسي الكاتب العام للمؤتمر، وعن يمينه السيد فرحات عباس (1889-1985م) أول رئيس للحكومة الجزائرية، وعن شماله يجلس محمد بن عبدالله المغربي أحد الطلاب النابهين حينها في جامعة القرويين.
وقبل جمعية طلاب شمال أفريقيا المسلمين تأسس حزب نجم شمال أفريقيا في باريس سنة 1926، ولم يصمد طويلا لأنه جاء من خلفية شيوعية كانت البيئة المغاربية طاردة لأطروحاتها، بينما كان مكتب المغرب العربي في برلين والقاهرة ولجنة الدفاع عن شمال أفريقيا في الأربعينات أكثر رسوخا لأنهما جمعا خيرة النخب الإسلامية الإصلاحية والوطنية حينها.
إن المغربي العربي الذي يدعى جغرافيا شمال أفريقيا هو في حقيقة أمره قطر واحد؛ فالتونسي والجزائري والمغربي أبناء وطن واحد هو المغرب العربي
- أحمد توفيق المدني (1898-1983م)
إرث وحدوي كبير
أولت النخب الإصلاحية المغاربية لمظاهر الوحدة الثقافية بين أقطار المغرب العربي اهتماما كبيرا فنوهت بوحدة الدين والمذهب واللسان والعادات والتقاليد، ويكاد يكون التنويه بتك الوحدة لازمة إصلاحية تحدث عنها الشيخ عبدالحميد بن باديس (1889-1940م) في آثاره تحت عنوان "وحدة الشمال الأفريقي:أبناء المغرب العربي في الشرق العربي"، وكان يرى أن "هذا الشمال الأفريقي لا ينهض إلا بتضامنه مع بعضه بعضا".
وتحدث عنها صنوه ورفيقه العلامة محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965م) بعنوان "اتحاد المغرب العربي الكبير" ورأى أن "المغرب العربي وحدة لا تتجزأ، جمعها الإسلام على تعاليمه الروحية السامية وجمعتها العروبة على بيانها وآدابها وجمعها الشرق على النور الذي بعثه مع كتائب الفتح الأول ومع اللغة التي وجهها مع قوافل بني هلال".
وفي المغرب خصها الإصلاحي الرائد علال الفاسي (1910-1974م) بكتاب وثق فيه جهاد "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، وكانت وحدة المغرب العربي هما مقيما عند الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور (1909-1970م) الذي كان يوصف بأنه "شيخ المغرب العربي"، فقد كتب عن "وحدة المغرب العربي بالثقافة الإسلامية"، ودون "وثائق من وحدة المغرب العربي عبر الكفاح".
وقد وجد في جيل الإصلاحية المغربية الرواد من كانت ترجع جذوره لقطرين أو ثلاثة من الأقطار المغاربية وخاصة بين تونس والجزائر وأشهرهم أحمد توفيق المدني (1898-1983م) الذي كان يقول: "إن المغربي العربي الذي يدعى جغرافيا شمال أفريقيا هو في حقيقة أمره قطر واحد؛ فالتونسي والجزائري والمغربي أبناء وطن واحد هو المغرب العربي، وقد جمعت بينهم فيه يد الله، وألفت بين قلوبهم عزة الماضي، وآلام الحاضر، وآمال المستقبل السعيد".
المراقب لأوضاع المنطقة يعرف أن التكتل يأتي في ظروف خاصة جدا بالنسبة للبلدان الثلاثة المشكلة له، وليس أهمها تصاعد الخلاف بين الجزائر والمغرب، ولا الحساسية التي تبديها الجزائر رسميا تجاه "دولة عربية" ترى أنها تتدخل في شؤونها.
التكتل الجديد
المستقبل السعيد الذي حلم به الإصلاحيون المغاربة الأوائل بلغ الحلم به ذروته مع قيام اتحاد دول المغرب العربي لا سيما هدف تحقيق "الوفاق بين الدول الأعضاء، والسعي لإقامة تعاون دبلوماسي وثيق أساسه الحوار البناء".
لم تستطع الدول الأعضاء تحقيق الوفاق البيني بينها، ولم تستطع أيضا إنهاء الاتحاد بسبب رمزيته الكبيرة لدى شعوب المنطقة فبقي الاتحاد معلقا رهين التعثرات، تحافظ الدول الخمس على صورته وشكله مفرطة في مضمونه وحقيقته.
وبسبب هذا التردد بين التخلي عن الاتحاد حقيقة والاحتفاظ به صورة أضحى التأكيد على التمسك به في التصريحات محل اتفاق بين الدول الخمس؛ فالمغرب وموريتانيا أكد رئيسا برلمانيهما في فبراير الماضي على ذلك، وأن التكامل المغاربي خيار لا رجعة فيه.
ولم يغب هاجس التخلي عن الاتحاد الخماسي نفسه عن أصداء التكتل الثلاثي الجديد، فقد نفت الجزائر على لسان وزير خارجيتها أحمد عطاف أن يكون التكتل الثلاثي الجديد بديلا عن اتحاد المغرب العربي، مؤكدا أن التكتل كان "ناجحا وليس وليد ظروف خاصة".
لكن المراقب لأوضاع المنطقة يعرف أن التكتل يأتي في ظروف خاصة جدا بالنسبة للبلدان الثلاثة المشكلة له، وليس أهمها تصاعد الخلاف بين الجزائر والمغرب، ولا الحساسية التي تبديها الجزائر رسميا تجاه "دولة عربية" ترى أنها تتدخل في شؤونها.
بل إن الظروف الخاصة هو ما يشهده النفوذ الجزائري من انحسار في أفريقيا لا سيما في مالي والنيجر بعد الانقلاب العسكري فيهما، وفي ليبيا التي تركتها الجزائر نهبا للانقسام الداخلي والأطماع الخارجية منذ عام 2013 من غير أن تسجل حضورا فاعلا يحمي حدودها الشرقية من أعداء غربيين ومنافسين عرب كانت الجزائر تتحسس منهم.
ولعل انحسار دور الجزائر الأكبر كان في تونس التي انقلب فيها على هيئات دستورية وبرلمانية كان أبرز مشكليها من حلفاء الجزائر التقليديين في المنطقة أقصد حزب النهضة الإسلامي الذي تركت الجزائر رئيسه الشيخ راشد الغنوشي برمزيته الكبيرة يقبع في السجن من غير تدخل أو محاولة للإفراج عنه، وهو ما يخصم من رصيد الجزائر المعنوي، ويضعف التعويل عليها، وهي قادرة بإمكانياتها الكبيرة أن تحمي تونس كلها من عبث العابثين، وليس الشيخ راشد الذي ألف السجون والمنافي.
المدافعة بين الحكام والمماحكات بين وزراء الخارجية العرب صارا أمرين مألوفين منذ عقود، ولهما تأثير آني على القضايا الكبرى، لكن الإشكال الأكبر في مثل هذه الخلافات الوهمية هو انجرار النخب لها واعتبارها خلافات حقيقية جديرة بالنقاش
النخب المغاربية
أبدت المغرب انزعاجا من التكتل الجديد باعتباره إقصاء لها، كما اعتبرته "تقسيما للمنطقة وإفشالا لحلم المغرب الكبير"، وهو انزعاج مفهوم في سياقه التنافسي بين الجزائر والمغرب، وهو ما دعا موريتانيا التي تفضل الحياد إلى عدم الالتحاق به رغم اتصال الرئيس الجزائري بنظيره الموريتاني واطلاعه "على اللقاء الثلاثي وبحثهما معا مسائل وقضايا راهنة، ذات طابع أفريقي".
المدافعة بين الحكام والمماحكات بين وزراء الخارجية العرب صارا أمرين مألوفين منذ عقود، ولهما تأثير آني على القضايا الكبرى، لكن الإشكال الأكبر في مثل هذه الخلافات الوهمية هو انجرار النخب لها واعتبارها خلافات حقيقية جديرة بالنقاش أو السباب أحيانا، وهو ما يظهر أحيانا بأسف شديد في وسائل الإعلام بين عدد من نخب البلدين الرئيسيين في اتحاد المغرب العربي.
وهو أمر لا يليق بمن تعول عليهم الشعوب في انتشالها من حالة الوهن والتمزق لا سيما الإسلاميون التي تحتم عليها مبادئهم العليا التمسك بالوحدة، وتجاوز الحدود الوهمية المصطنعة لتمزيق الأواصر، ولتبديد إرث قرون من التواصل الحضاري والسياسي والعلمي والروحي بين المدن العالمة في المغرب الكبير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.