عشت مع جيلي عقودا طويلة على وقع الهزيمة والنكبة والنكسة في فلسطين المغتصبة، وفي وطني الذي تحرر وسرعان ما وقع في براثن الاستبداد والتغريب والدكتاتورية.
تغنيت بالحرية في أوج المعاناة والقمع، وأنشدت الانعتاق وكرامة الإنسان وعشق الوطن، ونثرت قصائدي غزلا في "عروس العصاة" و"أبوس الأرض" و"من أين لي".. وكانت مزيجا من ضجيج ألم شعب بلدي المستضعف، وآمال متمردة عصية على جبروت المحتل في فلسطين.
واندلعت شرارة ثورة الربيع العربي الأولى، وتبرعمت أحلام وطن جديد، في كنف قيم غالية مدادها العزة وكرامة الإنسان.. وامتد الغليان، وتتالت فوهات البركان. وصدقت نبوءة من توقع تحرر الأرض المحتلة بمجرد انعتاق المواطن العربي في وطنه.
اندفع طوفان الاقصى بعد لحظة الانبعاث التي لم يتوقعها أحد.. وعلى قلة الدعم العربي استمر دفق الطوفان الثوري المتدفق نزيفا يطهر طريق القدس بمعالم من شهداء يرتقون دون ان تبدي المقاومة خلال ثماني أشهر بوادر ضعف أو ارتعاشه تنذر بالتراجع والانهزام.
وانبثق الطوفان!
والآن، سبعة أشهر مرت على انبثاق طوفان الأقصى، لم يتوقف خلالها شلال دماء الشهداء، ولم ترفع المقاومة الصامدة الراية البيضاء برغم تجاوز العدد مائة ألف بين شهيد وجريح، وواقع مليوني مشرد ومهدد بالمجاعة.
لا يبدو للناظر أي رابط للحدث مع ما عاشته مناطق من الوطن العربي قبل ثلاث عشرة سنة من حراك أطلق عليه الربيع العربي.
ولئن انطفأت شمعاتها الواحدة تلو الأخرى، وحوسب مناصروها وباتوا اليوم محل إدانة وملاحقة.. فإن الطوفان مستمر، وأصحابه متمسكون بالاستمرار في فعل المقاومة نصرةً للأقصى وفلسطين، قضية العرب الأولى.
وإن كل ما في الأمر أن أجندة قوى عظمى توقعت إنشاء "شرق أوسط وشمال أفريقيا" جديد، بمعالم وقيادات أكثر تحررًا وتقدميةً، ولم تتهيأ لأن تتسلم السلطة نُخب محافظة، وقوى تحمل معالم المشروع الإسلامي.
وتوالت حملات التزييف والتآمر على القوى الجديدة المنتخبة، ومع ذلك عاينت المنزلقات والأخطاء التي وقعت فيها تلك القوى في عنفوان نشوة النصر وطغيان الوهم بحسم المعركة مع جيوب الدكتاتورية والتغريب معا.
بذلك المعنى لم تكن ثورة.. حيث أخفقت السياسات في حشد الجميع في قطار واحد، وقيادته نحو وجهة تحمل أجملها، وتشترك الفئات المختلفة بوعيها الجمعي في تبنيها والتحرك الطوعي ناحيتها.
لسنتين لا أكثر، بأم عيني لمحت نجاحات ومفاخر شكلتها سواعد رجال المشروع الثوري الوليد.. مقابل ذلك أفلحت الثورة المضادة أو "حركات استعادة الوطن" و"تصحيح المسار"، حيث سرعان ما خابت كل مطامح المندفعين بشوق الثورة والتحرر، وأحيانًا المحملين بشحنة الحنين السلفي، وعملت معاول تدمير هياكلها واجتثاث أبنيتها من القواعد، وحملت المسؤولية نخب رفعت شعارات التصحيح والانتصار لقيم الوطنية والتحرر والتنمية.
وفي مقابل ذلك اندفع طوفان الاقصى بعد لحظة الانبعاث التي لم يتوقعها أحد.. وعلى قلة الدعم العربي استمر دفق الطوفان الثوري المتدفق نزيفا يطهر طريق القدس بمعالم من شهداء يرتقون دون ان تبدي المقاومة خلال ثماني أشهر بوادر ضعف أو ارتعاشه تنذر بالتراجع والانهزام.
اندلع الطوفان من رحم الوجع المشترك، من بوتقة الحلم الساكن عقول وقلوب العرب والفلسطينيين، وفي طليعتهم أهل غزة
توقف المسار الأول الموسوم بالثورة وبشموع الربيع، ليعقبه مسار جديد انطلق في قلب الأرض المغتصبة، وبرغم الحصار المستمر منذ نحو عقدين يعلن قادة الحراك الفلسطيني الجديد أن لا مجال للمساومة والخضوع، وأنه لا مجال للتنازل عن مطالب قضيتهم، قضية العرب العادلة.
لم يبك أحد، ولم يندد بسقوط المسار الأول أي من دول العالم وشعوبها، واكتفوا بمتابعة حشرجته المحاصَرة، وسريعا التفتت المجموعة الدولية حول القيادات الصاعدة على أنقاض المشروع الثوري والربيع الموءود.
أما في مسار الطوفان فإن الدنيا تهتز، وضمير الإنسانية ينتفض، وشعوب العالم وحكوماته تتحرك وتعلن التضامن مع أهل غزة في محنتهم، وتعلن انتصارها لصراعات الأطفال والموجعين وآلاف المشردين بين المخيمات ومدن غزة المدمرة.
اندلع الطوفان من رحم الوجع المشترك، من بوتقة الحلم الساكن عقول وقلوب العرب والفلسطينيين، وفي طليعتهم أهل غزة.. ولكل ذلك ظل الحراك الطوفاني على عنفوانه الأول، واستمر برغم تزايد وحشية القمع وعدوان الاحتلال والاستيطان.
وقفة محكمة العدل الدولية، وسابقة التوجه نحو إثبات إدانة المحتل بجريمة الإبادة الجماعية، بمبادرة من جمهورية جنوب أفريقيا بعد تضامن دول من أمريكا اللاتينية؛ لم تكن استثناء وحدثًا طارئا، وإنما لبنة في صرح الموقف الإنساني والدولي المساند للحق أمام آلة التدمير والظلم والاستيطان.
شمعتان انتصبتا في مهب الريح.. انطفأت واحدة.. وظلت الثانية، ومعها أكثر من درس وعبرة.. ورسالة لمن يعتبر.
كأنما جاءت ثورة غزة وانتفاضة رجال الطوفان بلسما يمحو آثار وجيعة الربيع الذي استحال خريفا.
وقد أثمر الصمود والصبر وتلاحم صفوف الغزاويين شعبًا ومقاومةً، مع إسناد بعض العرب – وفي مقدمتهم قطر ومصر- وتآزر العالم وانتفاض أحرار الشعوب في الشرق والغرب، حيث شكل تضامنها طوقا يحاصر العادي، وحضنا يحوط شمعة الشعب المدافع عن أرضه المغتصبة وحقوقه السليبة ومقدساته المعدنية فلا تنطفئ.
اليوم، أقف على عتبات تتويج ملحمة غزة بما رسمت في قصائدي طوال عقود ثلاثة، من حلم نصر مؤزر.
تدنو لحظة الظفر الكبير، وتتراءى مصابيح احتفال مشهود..
وتتباعد مع خبو أوار الثورات وشموع الربيع، حيث يلاحق عشاقها ويحبس أنصارها.
شمعتان انتصبتا في مهب الريح.. انطفأت واحدة.. وظلت الثانية، ومعها أكثر من درس وعبرة.. ورسالة لمن يعتبر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.