ما الذي يريده الإنسان؟!.. هذا السؤال يؤرقني مثلما يؤرق كل متأمل في حال الإنسان الحديث وما وصل إليه من جنون وعبث، فنحن نرى المجتمع الدولي يسن قوانين، ثم يكسرها بنفسه، يتغنى بالحقوق والحريات، بشرط أن يتربح منها، وإلا فيضيق على تلك الحقوق، ولنا في المجتمع الغربي أوضح دليل، فهذا المجتمع الذي طالما تغنى بمثالية زائفة، نراه الآن وقد تكشفت سوأته، وظهرت ازدواجية معاييره، من هضم للحقوق، واستعمال القمع والإسكات في الجامعات حيث ينادي الطلاب لوقف الإبادة في غزة، لهو أكبر دليل على زيف تلك المجتمعات.
ولا يبتعد الأفراد عن هذا العبث، فنرى إنسان هذا العصر يسعى بجنون نحو إقامة علاقات ومن ثم يقوم بنفسه بهدمها، تاركا خلفه وفي نفسه دمارا هائلا وفوضى، نراه يسير في اتجاه بسرعة ويقين وفي لحظة ينقلب ويغير مساره للاتجاه المعاكس، إنه يبحث عن شيء لا يعرفه، يهرع خلف سراب، يبني ثم يهدم ما بناه، ينمو ثم ينقلب على عقبيه.
فكيف يرتبط كل هذا بغياب الهويات الراسخة؟ وكيف أصلا تغيب هوية الإنسان؟ ومن المستفيد من هذا الغياب؟
الإنسان الحديث لا يتسق مع ذاته لأنه لا يفهم متطلباتها وما يلائمها، وبالتالي لا يشبع رغباته، ولا يحقق أهدافا تشعره بإنجاز حقيقي، لذلك يبقى دائما في حالة عدم انسجام مع مكونات حياته.
غياب الهويات.. حضور طاغٍ للعبث
في مقالتي الأولى في هذا الموضوع، استعرضت مفهوم الهوية، وقلت إنه انسجام واتساق بين الإنسان وفطرته وثقافته وتاريخه، وما يحيط به من مكونات الحياة، إلى آخر التعريف المفصل.
فهل يعيش الإنسان في هذا العصر منسجم مع الحياة ومتسقا مع ذاته؟
في العالم ما بعد الحداثي، يدفع الإنسان دفعا للتمحور حول ذاته، حيث المركز، أصل القدرة، ومنبع الحكمة، والدافع الوحيد للتحرك والهدف الأوحد للوصول، وهذا بالضبط ما يجعل الإنسان الحديث عاجزا على تخطي تلك الذات، فهو سجين في ذاته المتضخمة، وفي نفس الوقت هو لا يفهم تلك الذات رغم الهوس الجمعي بها، ورغم محاولاته المضنية لتحقيق الرفاهية لتلك الذات، وهذا لأن الإنسان يعجز عن فهم نفسه إلا عبر وسيط آخر، يعمل كمرآة يرى المرء فيها نفسه.
فإذا ما هدّمت النماذج، وأسقطت المقدسات، وقطعت الروابط والصِلات – وهذا ما يحدث في عالم ما بعد الحداثة – فكيف للإنسان الحديث أن يرى نفسه عوضا عن فهمها وإدراك ما تحتاجه حقا لا ما يساق إليه؟
والنتيجة أن الإنسان الحديث لا يتسق مع ذاته لأنه لا يفهم متطلباتها وما يلائمها، وبالتالي لا يشبع رغباته، ولا يحقق أهدافا تشعره بإنجاز حقيقي، لذلك يبقى دائما في حالة عدم انسجام مع مكونات حياته.
وهذا إنما يعني أن يعيش الإنسان بلا هوية حقيقية، فقط يوصم بهويات أخرى جاهزة ومعلبة، لا إنسانية، تدفعه للسير في قطيع من المستهلكين، حيث الاتجاه إجباري، للجري بسرعة خرافية، نحو البحث عن اللذة المتطرفة، والمغالاة في الاستمتاع، تسكينا لآلام غياب المعنى في الحياة.
وأثناء هذا الجري المحموم الذي لا نهاية له، يُرغم الإنسان على التخلي عن تاريخه وقيمه وأخلاقه، يتخفف من الدين، وأعباء الأسرة ومسؤولية العلاقات الحقيقية، يترك كل ما يمكن أن يثقل تنقله الدائم والسريع في سبيل أن يتخفف من قلقه، فلا يجد سوى مسكنات لحظية، يدمنها وتدفعه للعدو بسرعة في مسار دائري مغلق.
فالإنسان بلا هوية، مثل من يركب سيارة بلا مكابح، وتتحرك بأقصى سرعة، فلا يرى الأشياء حوله بوضوح، وضبابية الرؤية تؤدي لضبابية في الفهم والإدراك، كما أن هذه السرعة تمنعه من التوقف، فلا يجد متسعا لطرح الأسئلة والبحث عن المعاني، لذلك لا يصل لحقيقة هويته، فتعاد الكرة مرة أخرى.
لذلك العيش بلا هوية هو محو لكيان الإنسان، وقضاء نهائي على استقراره، ووعيه بذاته وبما يحدث حوله من أحداث، تضره أو تنفعه، فهو يفقد تماما قدرة الحكم على الأمور، لأنه يعيش بلا معايير تمكنه من التمييز والتفريق، وبهذا يكون الإنسان مجرد رقم يضاف إلى دائرة الإنتاج/الاستهلاك.
حينما تحكم قوانين السوق كل شيء، يتيه الإنسان في الأرض ويتخبط، ولا يقر له قرار، فيزداد انغلاقه على نفسه، وابتعاده عنها في آن واحد!
رسوخ الهوية اتصالٌ بالحياة!
عدم إدراك الإنسان لهويته الراسخة، إنما هو تقطيع للصلات بينه وبين كل شيء حوله، لأن الاتصال بين الإنسان ومحيطه، ينشأ من تفسير الأشياء والعلاقات والأشخاص والأحداث طبقا لإطار معرفي، أو نموذج تفسيري، وهما لا يوجدان من عدم، فالنموذج الذي يخلق من عدم، بلا أصول وأسس، يكون مزيفا، وضع للتضليل.
فالنماذج والأطر إنما هي نتيجة تفاعل الإنسان الطويل مع هويته الراسخة، والعمل على التطوير فيما يتماشى مع معتقداته وآرائه وأفكاره، وأسوته التي يتبعها والتي يرى أنها تتوافق مع هويته وتقربه أكثر إلى فطرته السليمة، وتقاوم نزوعه للتدمير والإفساد.
وانقطاع الاتصال بين الإنسان ومحيطه، يعني العيش في حالة من الاغتراب الدائم، فهو غريب عن الأرض التي يعيش عليها؛ لأنه فقد اتصاله الحقيقي بينه وبينها، وغريب عن الأشخاص الذي يعيش معهم؛ لأن العلاقات بينه وبينهم لا تعرّف طبقا لنموذج محدد وواضح، بل يحكمها قانون المنفعة والتربح. وكذلك أيضا يكون غريبا عن تاريخه، بل لا يفهم جدوى التاريخ، فهو لا يستطيع أن يبيعه مثلا ويربح منه ربح فوري!
فحينما تحكم قوانين السوق كل شيء، يتيه الإنسان في الأرض ويتخبط، ولا يقر له قرار، فيزداد انغلاقه على نفسه، وابتعاده عنها في آن واحد!
يرتع المحتل في عالم ما بعد الحداثة، ويعيش فيه بحرية كاملة؛ لأنه يشعر أنه في بيته، فحينما تكون القوانين في العالم ما بعد الحداثي، على على إزالة الخير والشر كتصنيف معتمد بين البشر، واستبداله بتصنيف المكسب والخسارة، يتشابه كل الناس في التخبط والتيه، يزول الفارق
الاغتراب الحديث وغياب الفارق بين المحتل والمواطن الأصلي
ألا تلاحظ معي أن هذا الاغتراب العام، المنتشر في العالم الحديث، إنما يزيل الفارق الأساسي بين الإنسان الذي يعيش على أرضه، مدركا لمسؤولياته وواجباته، متفهما لذاته، يعرف انتماؤه، وبين إنسان آخر يحتل أرضا ليست أرضه، ينسبها لنفسه، متجاوزا هويته الحقيقية، التي لا يمكن أن يجد لها جذور في أرض ليست أرضه.
فإذا كان الاضطراب المعرفي هو السائد، والاغتراب أثر جانبي لما بعد الحداثة، زال الفارق بين المواطن الأصلي والآخر المزيف، ذابت المفاهيم، وتاهت القيم، والنتيجة إنتاج أفراد متشابهين، فهم في تيه دائم وقلق مزمن، ودائما ما يبحثون عن اللذة والمنفعة السريعة التي تخفف الفرد من مسؤولياته.
فيرتع المحتل في عالم ما بعد الحداثة، ويعيش فيه بحرية كاملة؛ لأنه يشعر أنه في بيته، فحينما تكون القوانين في العالم ما بعد الحداثي، على على إزالة الخير والشر كتصنيف معتمد بين البشر، واستبداله بتصنيف المكسب والخسارة، يتشابه كل الناس في التخبط والتيه، يزول الفارق، ويتشارك الجميع في سعي جشع وقاس لجمع المكاسب المادية، ومراكمة المادة، والبحث الدائم عن المتع اللحظية. هكذا يعيش المحتلون، وهكذا يعيش الأشرار، وهكذا يعيش من لا يدركون هوياتهم الحقيقية.
لأن وعي الإنسان بهويته الراسخة، يخفف من سرعة لهاثه المستمرم بحثا عن أي شيء يداوي به قلقه وعدم يقينه، فحينما يدرك الإنسان ذاته، يهدأ، ويتوقف عن الهرع إلى السوق في كل لحظة للبحث عن دواء لقلقه المستمر، وتصبح لحياته معان متعددة، وتجد لمصطلحات مثل التضحية والإيثار تعريفا في قاموسه، لأن أهدافه لا تتمحور حول ذاته وفقط، فهو يعي أهمية الوطن، والمجتمع الذي حوله، يفهم ذلك ويتفهمه في ذات راسخة تتسع لتلك المفاهيم.
فالمستفيد الأول من غياب الهويات الحقيقية، ونشر اللامبالاة بالدين والقيم والأخلاق والأسرة والعلاقات، وتحكيم قوانين السوق على كل ما سبق، هما الشركات المتوحشة والمحتل لأرض ليست أرضه، وربما يكونا واجهين لعملة واحدة.
ختاما، حينما سئل المفكر عبدالوهاب المسيري في برنامج بلا حدود عن مَواطن ضعف المُواطن الصهيوني أجاب: أن مَواطن الضعف في المُواطن الصهيوني هي التوجه نحو اللذة، والالتفاف حول الذات، أما موضع الضعف الأساسي هو أنه لا يؤمن بأي مثاليات بما في ذلك المثاليات الصهيونية، ولذلك هو يبحث عن بحبوحة العيش أينما كانت.
ألا تلاحظ معي أننا في عالمنا الحديث اليوم، نتجه لأن تصبح مَواطن الضعف في المُواطن الصهيوني، هي مَواطن ضعف للإنسان الحديث بشكل عام؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.