يشير قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية إلى أن مفردة (يوروسنتريزم -Eurocentrism)، التي تعني المركزية الأوروبية ومشتقاتها، ظهرت في اللغة الإنجليزية في أوائل القرن العشرين. وعلى ما يبدو فإن ظهورها صاحَب حركات التحرر من الاستعمار وانحسار السيادة الأوروبية الصريحة على العالم. ولاقى المصطلح رواجًا واضحًا في الأوساط الفكرية والأكاديمية -لا سيما الغربية- في عقدَي الثمانينيات والتسعينيات بعد نشر كتاب لعالم الاقتصاد المصري الفرنسي سمير أمين جاءت المُفردة ذاتها عنوانًا له.
المركزية الأوروبية امتدت إلى العالم في بداية الأمر مع الاستعمار السياسي والعسكري الذي سرعان ما هدم منظومات العلم والمعرفة في الشعوب الأخرى -كليَّا أو جزئيًّا- وفرض نُظُم معرفته ومعاييره للمخطئ والمصيب والقَيِّم والبَخْس والحسن والقبيح إلى أن تشربتها الشعوب
ورغم أن دلالة المصطلح قد تبدو بديهية للوهلة الأولى، فإن جدلا لا يزال قائما بشأن دقائق معناه وتبعاته.. ففي أبسط تجلياته، قد يحيل مصطلح المركزية الأوروبية إلى مجرد وعي لدى الأوروبيين بانتمائهم إلى قارة أوروبا وثقافاتها ومجتمعاتها أو إلى ميلهم إلى رؤية العالم من منظور ثقافاتهم وجعلها محور اهتمامهم؛ وهنا قد يرى البعض أن كثيرًا من الشعوب والجماعات تشترك في هذه السلوكيات، بل وحتّى أن هذه الميول بشرية خالصة لا فرق فيها بين الأوروبيين وغيرهم.
إلا أن الصورة تقل ورديّةً حين تتحول المركزية إلى "تمركز"، ويغدو مجرد الانتماء إلى عرق "استعراقًا"، فيتعدى الأمر ذلك ليصبح اعتقادًا بتفوّق فئة على غيرها، واتخاذ كل ما تفعل وتؤمن به مقياسًا تقاس به باقي الفئات والشعوب، واعتبار كل ما تمثله الجماعة بديهيا ومثالا وجب على الآخرين الاحتذاء به. فالآخرون -وفق هذا التصوّر- على خطأ وجهل وتخلف، وقد يؤدي هذا الاعتقاد في أحلك صوره إلى نزع صفة الإنسانية عمّن لا ينتمون إلى الجماعة، وإلى تبرير الاستبداد والتدمير بكل أشكاله بذريعة تنويرهم وإدخالهم في "الحضارة"، بل وحتى "الإنسانية".
وقبل السابع من أكتوبر، كانت أكثر وجوه هذه النزعة تطرفا وعنفا -من بين تلك التي برزت في تاريخ أوروبا- تبدو كأنها لم تعد مقبولة صراحة في عالمنا اليوم؛ ولكن رغم ذلك، كانت هيئات تلك النزعة الأقل جلاء لا تزال تُسيّره في العديد من مجالات الأدب والفكر والسياسة وغيرها. فالمركزية الأوروبية امتدت إلى العالم في بداية الأمر مع الاستعمار السياسي والعسكري الذي سرعان ما هدم منظومات العلم والمعرفة في الشعوب الأخرى -كليَّا أو جزئيًّا- وفرض نُظُم معرفته ومعاييره للمخطئ والمصيب والقَيِّم والبَخْس والحسن والقبيح إلى أن تشربتها الشعوب، وصارت متغلغلة فيها حتى أغفلت مورِدها أحيانًا كثيرة.
نرى المركزية الأوروبية في رواية التاريخ، فنجد فيها ادعاءات بأن ظواهر إنسانية عالمية شتّى حكر على أوروبا، ومنها الحب العذري (الرومانسي أو الأفلاطوني في التعبير الأوروبي) وأن منشأه الحضارة الأوروبية، وأن غيرها من الحضارات لم تتوصل إلى هذا النوع من الحب النبيل إلا بعد الاحتكاك بها.
المركزية الأوروبية في الفكر والاجتماع
حين غزا الأوروبيون العالم مَحَوا أسماء أماكن واستبدلوا بها أخرى، وغيّروا بُناها السياسية والاقتصادية، وأعادوا تشكيل تركيباتها الاجتماعية، وصاغوا حياة الكثيرين على وجه الأرض على شاكلتهم..
ولهذا قد تظهر معالم المركزية الأوروبية في جوانب عدّة من الحياة المعاصرة، كالإعلام والفنون والعمارة والتاريخ وحتى الجغرافيا؛ فكثير من المسميات الجغرافية كـ "الشرق الأوسط والأدنى والأقصى" منبثقة عن منظور أوروبي للعالم، وعن مواقع تلك المناطق بالنسبة إلى أوروبا، وكذلك هو حال الكثير من الخرائط، وهي التي باتت منذ الحداثة المبكرة (عصر النهضة الأوروبية) تضع أوروبا والعالم الغربي باستمرار في أعلى الرسم، على عكس العرف السائد قبلها في رسم الخرائط، وتُبالغ في مساحتيهما فتبدوان أكبر مما هما عليه في الواقع، حتى بدت قارة أفريقيا في العديد من الخرائط أصغر من دولة كندا، علمًا أن مساحة الأولى تفوق الثانية بثلاثة أضعاف على الأقل.
ونرى المركزية الأوروبية في رواية التاريخ، فنجد فيها ادعاءات بأن ظواهر إنسانية عالمية شتّى حكر على أوروبا، ومنها الحب العذري (الرومانسي أو الأفلاطوني في التعبير الأوروبي) وأن منشأه الحضارة الأوروبية، وأن غيرها من الحضارات لم تتوصل إلى هذا النوع من الحب النبيل إلا بعد الاحتكاك بها. وتظهر النزعة ذاتها في سرد تاريخ التقدم التكنولوجي والعلمي، فيقال إن الطباعة والبارود والبوصلة اختراعات أوروبية رغم وجودها في الصين قبل قرون من وصولها إلى أوروبا، وأن أهم مرحلة في تاريخ العلوم المادية هي "الثورة العلمية" في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد، فتبهت في هذه الصورة المساهمات السابقة في العلوم، خاصةً الإسلامية والصينية منها، وتغدو المساهمات اللاحقة في اليابان وروسيا وغيرهما مجرد اشتقاقات وتفرعات عن الأصل الأوروبي.
وبهذا فإن المركزية الأوروبية تتسم بالتمحور حول الذات وإنجازاتها، وهو ما دعاها إلى التقليل من قدر مساهمات المجتمعات غير الأوروبية والغربية في تاريخ أوروبا والعالم، والادعاء بأن نماء أوروبا كان ذاتي المنشأ غير معتمد على أي تبادل أو أثر خارجيين. وكان من ذلك أن مُحي الكثير من الإرث الحضاري للشعوب الأخرى من السّرديّات التاريخية السائدة، وهُمشت مساهمته في الإرث الحضاري الإنساني الجمعي.
لا شك أن آلة الإعلام الصهيوني، ومثله المتصهين، أفنت عقودًا تحاول رسم صورة مشرقة للكيان على أنه النظام الديمقراطي الوحيد في المنطقة، المُحبّ للسلام، الراغب في الانخراط مع شعوب ودول جارة يراها نظيرة له، وهو الضحية المنبوذة بلا سبب غيَّر عنصرية كامنة لدى من يعادونه
المركزية الأوروبية واحتكار الإنسانية
جاءت أحداث السابع من أكتوبر وما بعدها لتفضح عقائد المركزية الأوروبية وقيمها، التي كانت ولا تزال تُحرّك رؤوس المنظومة العالمية، فكشفتها للعلن بعد أن خبت وباتت مبطنة – ولو جزئيًا- في العقود الأخيرة، إذ بدت تجلياتها في السردية الإسرائيلية، وكذلك الأوروبية والغربية الداعمة لإسرائيل. والأولى في الواقع مجرد امتداد للثانية، فإسرائيل ما هي إلا تجسيد حيّ لأبشع صور المركزية الأوروبية، خاصة القديمة والصريحة منها، وهي البنيان البالي الذي لا ينتمي نظريًا إلى زمان سادته لغة الحقوق والمساواة والقوانين الدولية.
لا شك أن آلة الإعلام الصهيوني، ومثله المتصهين، أفنت عقودًا تحاول رسم صورة مشرقة للكيان على أنه النظام الديمقراطي الوحيد في المنطقة، المُحبّ للسلام، الراغب في الانخراط مع شعوب ودول جارة يراها نظيرة له، وهو الضحية المنبوذة بلا سبب غير عنصرية كامنة لدى من يعادونه، فكادت الكذبة تُصدّق وتنزل منزل المُسلّمات. أُضمِرَت المركزية الأوروبية في زوايا تلك السردية وتفاصيلها دون أن تبرز صراحة، تحديدًا في سنوات التطبيع الأخيرة، لكنها في جوهرها لم تتغير قيد أنملة؛ فالكيان في تلك الروايات جالب للحضارة والتقدم (الأوروبيّين حقيقةً)، محاط بأقوام همجية تُكِنّ له العداء، لمجرد تخلفها وعجزها عن تمَثُّل القيم الإنسانية السامية التي يجسدها.
وحينما وقعت أحداث السابع من أكتوبر، وتبعتها ما تبعتها من تطورات، ظهر ذاك الجوهر للعيان وتكشف النفاق والتلفيق اللذان كانا يكتنفانه، وكشّرت المركزية الأوروبية عن أنيابها في القصص التي تداولتها كبريات وسائل الإعلام والعديد من الحكومات الأوروبية والغربية. حملت تلك الروايات المتناقلة أصداء ماضٍ استعماري، واتهمت "الآخر" بجرائم يندى لها الجبين، بدت أقرب إلى الخيال من الواقع وذكّرت بالأساطير التي روجها الأوروبيون عن الشعوب المستعمَرة في القرون الفائتة.. فـذلك "الآخر" لا يقتل فحسب في تلك الروايات، وإنما يقطع رؤوس الأطفال الرضع، ويضعهم في الأفران، ويضرم النار فيهم، ويتناوب العشرات منه على اغتصاب المرأة الواحدة، وما إلى ذلك مما أوحت المخيلة؛ فهو الوحش منزوع الإنسانية، وهو الذي مهما وَثّق وتحرّى الصدق والدقة تظل كلمته موضع شك.. هو كائن مختلف وفقًا لمنطق تلك الروايات، ليس إنسانًا بالمعنى الكامل للكلمة، فالإنسانية حكر على الراوي.
لم تُنتفَ تلك الروايات المبتدعة على الفور في كثير من الغرب، وإنما صُدّقت واجتُرّت، وهذا بيت القصيد. فنجاحها الأولي على الأقل فضح جذور العنصرية الضاربة في سرديات أوروبا والغرب ووليدتهما إسرائيل عن بقية شعوب العالم، وكشف وجودها الراسخ حتى تلك اللحظة. ولكن يبدو أخيرًا أن العالم يستفيق، وأن عقائد المركزية الأوروبية بدأت فعلًا تهتز بعد أن أميط اللثام عنها، فصار من الأسهل مواجهتها وتفكيكها واحدة تلو الأخرى. فذلك "الآخر" لم يعد اليوم صامتا متلقيًا مُغَيّبا، بل أضحى فاعلا، متحدثا، محاجِجا، متقنا للغات عدة، مخاطبا العالم دون وسيط، والأهم أنه بات ممسكًا بزمام سرديته وصادحا بإنسانيته غير متنازل عن أي شبر منها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.