سرق الحراك الطلابي الأميركي المناصر لغزة الأضواء خلال الأسابيع الأخيرة، ولقي الكثير من الإشادة والتحليل والمقارنة والاحتفاء في محاولة لفهم أسباب استمراريته وتطوره، ومكامن قوته وتأثيره، وإمكانيات تمدده وتوسع نطاقه، على اعتبار أنه حدث مفصلي هام، يتشابه مع أحداث سابقة ساهم فيها حراك مماثل بإحداث تحولات فكرية وسياسية بعيدة المدى.
ورغم ما نقلته الأقلام والتحليلات، لا يزال هذا الحراك يحمل في جعبته الكثير، ويقدم مساحات تأمل تساعد على فهم المشهد واستشراف المستقبل القريب.
يعكس الحراك الجامعي الغربي حالة من الصدمة تجاه الانفصال السافر بين القيم التي نشأت عليها هذه المجتمعات وتغنت بها، وبين الممارسات السياسية على أرض الواقع، وهو ما أثار العديد من الأسئلة والنقاشات العميقة حول مساحات الحرية المتاحة
ما الجديد في الحراك الطلابي الغربي؟
بدأ الحراك الطلابي الغربي وخاصة الأميركي قبل شهور بمظاهرات ووقفات احتجاجية وقطع للطرقات، أعلن فيها الطلاب المحتجون موقفا صريحا من جريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها " إسرائيل" بدعم غربي، ورفعوا فيها مطالب واضحة موجهة للسياسيين قبيل الانتخابات الوشيكة، محاولين ممارسة المزيد من الضغط على صانع القرار تارة بالتظاهر داخل الجامعات وتارة أمام مراكز حكومية حيوية.
واللافت في الحدث هو انتقال هذا الحراك الطلابي إلى مستوى تصعيدي جديد، يعتبره البعض تتويجا لمراحل حشد الجمهور وإعداده خلال الشهور السابقة، فرغم تجاهل السياسيين للمطالب الشعبية لم يستسلم الطلاب المحتجون، بل غيروا سياستهم واتجهوا لاستهداف مصالح "إسرائيل" الاقتصادية التي يستطيعون التأثير عليها ضمن مؤسساتهم التعليمية.
بل حدث أيضا أن بدأ الطلبة بالضغط على جامعاتهم لإيقاف استثماراتها في شركات السلاح، أو التعاون مع الجهات التي تدعم جرائم الإبادة في غزة، فانطلقت شرارة التصعيد من جامعة كولومبيا وانتشرت طولا وعرضا في العديد من الجامعات الأميركية والكندية والغربية وغيرها.
لقد تمثل هذا التصعيد في إنشاء مخيمات داخل الحرم الجامعي، واعتصام جموع الطلاب فيها، وتعطيل الدراسة الفيزيائية، في شكل من أشكال الاحتجاج السلمي المعترض على حالة التضارب بين السياسات الحكومية الحالية والقيم التي بنيت عليها الدولة، وانضم الأكاديميون والأساتذة للحركة الاحتجاجية المتوسعة، معرضين مصالحهم ومناصبهم لخطر الاستهداف من قبل اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل صاحب النفوذ والسطوة.
لقد اتسم هذا الحراك الطلابي بالتنوع، فضم في صفوفه الطلاب المحليين والدوليين، وشكل لوحة فريدة تشكلت من مختلف الأعراق والأديان والخلفيات الفكرية والسياسية التي لم تعترض فحسب على سياسات بلادها، بل اعترضت على النظام العالمي المنحاز الذي ينتهج سياسة ازدواجية المعايير بشكل سافر.
غلب على هذا التصعيد الطلابي أيضا حالة الهدوء والانضباط وضبط النفس تجاه محاولات الاستفزاز المتكررة، وتجنب الاحتكاك مع قوات الشرطة والأمن بهدف قطع الطريق أمام أي تخريب متعمد، كما حمل مطالب واضحة ومباشرة لإدارة تلك الجامعات، فأعلن الطلاب رفضهم أن تتورط جامعاتهم بالشراكة أو تقديم الدعم لـ"إسرائيل" في حرب الإبادة التي تشنها بها، كما طالبوا بوقف كافة أشكال التعاون معها سواء كان هذا التعاون في مجالات تخصصية أكاديمية أو غير أكاديمية، وضرورة قطع الاستثمارات الجامعية المباشرة وتقديم تقارير شفافة حول الجهات والشركات التي تستثمر فيها هذه الجامعات.
وهنا لا يمكن الاستهانة بجهود الجالية العربية والإسلامية، لا سيما الفلسطينية، فقد كانوا المحرك والدينامو الذي حرك العجلة في دورتها الأولى وذلك بإصرارهم على إثارة قضيتهم رغم تطاول المدة، مستفيدين من الجهود التي قدمها الفلسطينيون المغتربون ومؤسساتهم التي نقلت قصتهم وتفاصيلها بلغات جديدة.
فتراكمت الجهود لتنطلق عربة التضامن الإنساني بوتيرة متسارعة ناقلة من تحمله من مجرد حالة التعاطف السلبي مع الضحايا، إلى دائرة المناصرة الحقيقية والانخراط في قضايا الآخرين وتبنيها كجزء من الدفاع عن القيم الإنسانية.
ومن جهة أخرى، يعكس الحراك الجامعي الغربي حالة من الصدمة تجاه الانفصال السافر بين القيم التي نشأت عليها هذه المجتمعات وتغنت بها، وبين الممارسات السياسية على أرض الواقع، وهو ما أثار العديد من الأسئلة والنقاشات العميقة حول مساحات الحرية المتاحة، وارتهان بعض الجامعات لسياسات الممولين أو اللوبي الصهيوني، والمحاولات الحثيثة لمصادرة الرأي والفعل، بهدف تفعيل سياسة الصوت الواحد فقط.
لم يكن هذا الحراك الطلابي كما يتوهم البعض حالما أو رومانسيا أو سهلا، فقد واجه ردات فعل همجية من قبل عناصر الشرطة وكلابها البوليسية، وحالات ضرب وقمع وسحل واعتقال لا تختلف عما نشاهده في بلادنا، كما تعرض المعتصمون أساتذة وطلاب لتهديدات مبطنة ومباشرة بهدف ثنيهم عن جهودهم، ولكن هذا الحراك بغض النظر عن نتيجته وضع بصمة من الصعب تجاهلها عند كل من شارك به أو شهده أو تابع أخباره، مؤسسا لمعان جديدة في نفوس الشباب وخاصة طلاب جامعات القمة حول أدوارهم ومسؤولياتهم في التغيير، وصورة "إسرائيل" الحقيقة ومدى توغلها في عمق الدولة والمؤسسات.
تحولت مؤسساتنا التعليمية لا سيما الجامعية منها إلى مصانع تعيد إنتاج وقولبة الأدمغة والشخصيات لتخرج متماثلة متشابهة في أفكارها وطموحاتها، لا تملك مهارة سوى الحفظ وترديد ما تم تلقينه، فلا مكان فيها للنقد والابتكار والمراجعة والتطوير
هل سينتقل الحراك الطلابي إلى العالم العربي؟
لطالما كان هذا السؤال حاضرا منذ اللحظات الأولى التي تطور فيها الحراك الجامعي الغربي، فقد انقسم الجمهور المتابع للحدث بين من يتوقع انتفاضة طلابية سريعة في عالمنا العربي استجابة للحدث الطلابي الذي يمتد عالميا بشكل سريع، بينما يعتقد آخرون أن الحراك الطلابي العربي لا تتوافر له البيئة والمناح المناسب نتيجة أجواء الكبت والاستبداد السائدة.
لا يمكن تجاهل الاختلاف بين ظروف وبيئة هذا الحراك وظروف بلادنا، ولعل النقطة الفارقة هنا هي أدوار المؤسسات التعليمية التي تم تهميشها فسلبت أدواتها ومساحات تأثيرها وتم تفريغها من محتواها، فالتعليم العالي وخاصة في بلدان العالم الثالث ينظر على أنه وسيلة لاكتساب المكانة الاجتماعية والوصول إلى فرص عمل أعلى دخلا وأكثر ديمومة، وخاصة عند الشريحة المتوسطة والفقيرة.
لقد تحولت مؤسساتنا التعليمية لا سيما الجامعية منها إلى مصانع تعيد إنتاج وقولبة الأدمغة والشخصيات لتخرج متماثلة متشابهة في أفكارها وطموحاتها، لا تملك مهارة سوى الحفظ وترديد ما تم تلقينه، فلا مكان فيها للنقد والابتكار والمراجعة والتطوير للأفكار السائدة، تقتل الإبداع والمبادرة وتقيد حرية الرأي والتفكير المبتكر.
إن من أدوار المؤسسات التعليمية الغائبة في أوطاننا المساهمة بتمكين المجتمعات، وتعزيز تماسكها، حيث تقدم الجامعة بيئة مصغرة عن المجتمعات المتنوعة التي تضم مختلف الأطياف، كما تعتبر الساحة الأولى لتعليم قيم المواطنة المحلية والعالمية، من خلال تعزيز الوعي بالقضايا والمشاكل المحلية، وإثارة الانتباه للقضايا المستجدة والطارئة، خاصة وأنها تشكل فضاء سياسيا يختلف عن المجال السياسي اليومي، يقدم فسحة للتعبير عن أفكار قد تبدو غريبة، وفرصة للحشد والمناصرة لقضايا ذات أولوية، ووسيلة لتأطير جهود الشباب في تنظيمات مدنية وتطوعية، وتعريفهم بمبادئ العمل المدني وأدواره الحوكمية، وإشراكهم في عملية صناعة القرار والتأثير فيه.
أشكال الاحتجاج السلمي بشكله التقليدي الذي يجري في منطقتنا تم تفريغه من أدوات التأثير ولا يستطيع الضغط على صناع القرار، لأنه حراك مقيد يتم التحكم به، ولأنه تحرك عاطفي لم يمتلك خطة واضحة للتصعيد السلمي المؤثر
ولطالما ساهمت الجامعات في التعبئة الطلابية سواء في الانتخابات أو في الحركات الاجتماعية، وشكلت بيئة تعزز الانتماء المدني وممارسة العلاقات الاجتماعية لاسيما في التعامل مع السلطة والأنظمة، بشكل يشجع الطلاب على التعبير عن آراءهم وتطلعاتهم تجاه سياسات الجامعات بداية، وتجاه سياسات الدولة لاحقا، من خلال الحراك الطلابي التنظيمي وتوقيع العرائض والمشاركة في المظاهرات الطلابية أو حملات المقاطعة.
ولعل غياب هذه الأدوار عن مساحات مؤسساتنا التعليمية أضعف أدوار الحراك الطلابي الذي لطالما كان مؤثرا في السابق، وسلب منه التجربة والأدوات ومساحات المشاركة الفعالة، وحصر مساراته بمظاهرات غاضبة ينفس فيها المتظاهرون جزءا من حالة الإحباط واليأس التي يعيشونها وفقا لما تسمح به السلطات، وضمن معايير لا تسمح بأن تخرج هذه الطاقات الغاضبة عن السيطرة وعن الحدود المسموحة لها.
ولا يعني هذا التقليل من شأن ما بذله شبابنا العربي خلال الشهور الماضية، فهو الأكثر شهامة وحمية والأكثر بذلا، ولكنه محاولة للمصارحة بأن أشكال الاحتجاج السلمي بشكله التقليدي الذي يجري في منطقتنا تم تفريغه من أدوات التأثير ولا يستطيع الضغط على صناع القرار، لأنه حراك مقيد يتم التحكم به، ولأنه تحرك عاطفي لم يمتلك خطة واضحة للتصعيد السلمي المؤثر ولا لاستهداف المصالح الفعلية، ولا يملك مساحات حوار شفافة تقيم وتنتقد القيم الحقيقية التي تقوم المنظومة التعليمية بغرسها ابتداء من المستوى المحلي ووصولا إلى المستوى العالمي، ونتيجة لهذا الأفق المسدود يزهد شبابنا بهذه الأنشطة، ولا يجدون منفذا سوى الاستسلام للواقع والركون للعجز، أو الهجرة بعيدا نحو بلاد براقة تعدهم بما هم محرومون منه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.