شعار قسم مدونات

طحين أحمر (2)

استشهاد 8 فلسطينيين من فرق تأمين المساعدات إثر استهداف طائرات الاحتلال الإسرائيلي (الفرنسية)

ارتفعت أصوات الخطوات، وتكاثرت أصداء الصيحات، وعلت المطالبات بالمعونات، فلما قمت أجري لكي أتبين الخبر كانت الجثث المتراكمة تضيق بالمكان، ورائحة الجثث تحجب الرؤية ولكنها تجعل الرؤيا أحد، فيد معلقة بكتف هناك، وأكتاف ملقاة هنا، وذاك الصليب مغمس في الدم، وصفحة من مصحف ممزقة تغشى وجه إحدى الراهبات، ممن كن يمددن يد المساعدة للمصابين، منظر خطف قلبي، وصيحات في طلب الهواء بعد أن كانت تطلب الماء.

تختلط الآهات بالأنات الكثيرات، وقلبي يرتجف، بدأت أركض لكي أعين أي طالب للمساعدة ومن فرط السرعة، وشدة اللهفة، انزلقت في الأرض اللزجة بالدماء، فتعثرت فجاء رأسي على أرجل هزيلة، فصعد الصراخ في صيوان أذني، فكانت طفلة في السنوات السبع من عمرها، والسبعين من قدرها، ولكنها تشرق بعينين تكادان تنطقان من فرط الفزع الأكبر بأنها قد جازت السبعين سنة من شدة القهر، ويكاد جبينها يتشكل بالتجاعيد ذات التساؤلات الممضة، ليش؟ وكيف؟ ومتى؟ ولمتى؟ فكانت تساؤلات لا تخرج من الفم الطفولي الذي خلق للمارشمسلو وليس لمضغ الدم.

بدأت أمسد شعرها الحرير بأصابعي وأنا اغني لها: "يلا تنام.. يلا تنام.. واذبحلا طير الحمام.." ثم انتبهت على كلمة "أذبح" يااااه.. حتى في غفوة الطفولة يوجد ذبح للحمام الذي خلق للسلام؟

حملتها وهي تتشبث وصراخها يملأ ما بين الهلال والصليب، حملتها وهي تتشبث بي وصراخها يعيد تشكيل العالم بلعنة، حملتها وركضت بها وهي تنادي على أمها التي تناثرت أشلاؤها على امتداد الأرض من رأس الناقورة إلى النقب باحثة عمن يخبرها أن الأمر مجرد حلم كريه، وكابوس إن استيقظت منه تبدد.

إعلان

وصلت بها إلى غرفة الطوارىء وكانت تغص بالجرحى ومن تبقت بهم حياة، فلم أجد إلا أسفل الدرج حيث كانت تتجمع عبوات الأكسجين التي أفرغت في صدور الموتى قبل أن تحين لحظة رحيلهم، فجعلتها في حضني وقطعت طرف منديلي بأسناني ووضعت عليه بعض لعابي، وبدأت امسح قطرات الدم الناشف على وجهها حتى نامت في حضني وهي تتمتم بكلمات لم أفهمها وغفت وهي تنتفض من شدة الخوف.

كلما غاصت في النوم فزعت تبحث عن أمها فإذا رأتني أطالعها ترجع للنوم، وهكذا حتى غفوت معها وصحوت على صوتها وهي تبكي ففزعت وأخذتها في حضني وبدأت أهدأ عليها، وعلمت أنها الآن بين خوفها مما يحصل وخوفها على أمها أين هي، وخوفها مني أنا، فمن أنا؟

سألتها: ما اسمك؟ قالت بصوت خفيض جدا "كساندرا"، آه مع ابتسامة كانت قد حبست دموعا كادت تسيل لولا خوفي من نظرة عينيها وهي تراقب عيوني، وضممتها إلى صدري بقوة الحاجة إليها أكثر من حاجتها لي، وبدأت أمسد شعرها الحرير بأصابعي وأنا اغني لها: "يلا تنام.. يلا تنام.. واذبحلا طير الحمام.." ثم انتبهت على كلمة "أذبح" يااااه.. حتى في غفوة الطفولة يوجد ذبح للحمام الذي خلق للسلام؟ غفت على صدري وأنا أحدث نفسي في الخطوة التالية، ما العمل؟ ماذا أفعل بها؟ إلى أين أرسلها؟ كيف أجد أهلها؟

أنا بين الزحام تعالت الأصوات، وإذا بكف تهزني وتقول على من تنادي؟ قلت: على أم لإحدى الفتيات اسمها كساندرا، فحضنتني تلك السيدة التي كان العمر قد أخذ منها أكثر مما اخذت منه، وهي على كتفي الأيمن وأنا أشعر بحرارة دموعها على منديلي وقالت والصوت يكاد يصل مبلولا إلى أذني: ماتت.

تركتها على تحت الدرج وهي تغطّ في سبات عميق، وبدأت أبحث بين جموع الناس عن أهلها، وبدأت بالصراخ والمناداة على أمها، لعل لطف الله يدركها، ويدرك صوتي، ويدرك أمها، ويدرك مستقبلها.

وأنا بين الزحام تعالت الأصوات، وإذا بكف تهزني وتقول على من تنادي؟ قلت: على أم لإحدى الفتيات اسمها كساندرا، فحضنتني تلك السيدة التي كان العمر قد أخذ منها أكثر مما اخذت منه، وهي على كتفي الأيمن وأنا أشعر بحرارة دموعها على منديلي وقالت والصوت يكاد يصل مبلولا إلى أذني: ماتت، وهي تنادي عليها، وأنا هنا صرخت بكل صوتي ويكأنني أخرج الغضب اللي في داخلي على كل شيء في حياتي.

إعلان

لم أكرر شيئا غير تلك الصرخه ومشيت تاركة كل شيء خلفي نحوها فجئتها وهي ما زالت في نومها تحت الدرج البارد، فاقتربت منها ووضعتها على كتفي، وأنا أكرر بحبك يا كوكو، بحبك يا كوكو، ومشيت بها في أروقة المشفى أبحث عمن يؤوي الأطفال، فقالوا لي إن هنالك مكانا في طرف المشفى عند السيدة زينب، فمشيت أبحث عن زينب، فلما دخلت الغرفة المخصصة للأطفال، سقطت على ركبتي من هول ما رأيت.

 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان