شعار قسم مدونات

الشجاعة لا المعرفة.. هي من تصنع الفارق

blogs الربيع العربي
السعادة كلما ازداد استهلاكها ممن يدور التاريخ لصالحهم كلما شحت على من لا يسع التاريخ إلا أن يدور عليهم (رويترز)

إذا كنت عربيا وشهدت سنة 2011 وأنت حينها شاب واع، وكنت تعيش في إحدى تلك "الدول" التي فجرت الثورات، فلقد عشت معي نطاقا زمنيا يمكن أن يكون مثالا لحركة التاريخ.

التاريخ، ذلك المصطلح الذي تنازع الناس في تفسيره ورؤيته والتعامل معه، فترى بأم عينك خصمين يتناوشان، كل واحد منهما يعير الآخر بسجلات التاريخ، الماضي منه السحيق والقريب، بل وحتى الذي يحفظ الآن وسيكتب فيما بعد، الجميع يدعي أن التاريخ يقف معه، والتاريخ نفسه لو نطق لما عرف نفسه.

يقول ألبرت حوراني إن: "التاريخ هو ما يحتاج الناس لتذكره"، وهذا تعريف بليغ يغني عن شرح كثير، وفي النهاية إذا كنت ممن يقدسون التاريخ، أو من أولئك الذين يشككون فيه، فالثابت أن من روي الروايات وسطر التاريخ هو إنسان يجري عليه كل ما يجري على البشر من تحيزات عاطفية وفكرية وتأثر بالحاضر ومقدرة نسبية على الإنصاف، حتى ولو سميناه مؤرخا، فهذا لن يجرده مما سبق، ولهذا فستجد المؤرخين حريصون على استخلاص الروايات التاريخية من كل مصادرها المتاحة، وترى المجتهدون منهم يحاولون دراسة الراوي وتأثيرات الواقع، مع دراسة التاريخ.

نفس تلك الآلة التي حكم بها فرعون قبل آلاف السنين، لا تزال صالحة في زمن ما بعد الثورات العربية، التخويف، والتبرير، وشراء الذمم.

كل هذا الجدل عن التاريخ وتحيزاته لم تعد تهمني، فأنا وأنت قد رأينا شريحة تاريخية متخمة بالتغيير، وبالروايات، تغني عن كل تلك المعاني، كأن هذا التاريخ قرر أن يتماشى مع معايير الألفية الثالثة، فلم يعد يصبر كثيرا على تكرار نفسه، فأنت اليوم لا تحتاج لدراسة ذات نطاق زمني يقاس بالعقود ولا القرون حتى تتعظ من التاريخ، أو تكتشف دوران الزمان على أهله، يكفيك فقط أن تستخدم ذاكرتك خلال 10 سنوات، لتكتب مقالا وترسله لمدونات الجزيرة، تدعي فيه أنك صرت خبيرا بحركة التاريخ.

إعلان

ما يحيرني في التاريخ، هم صانعوه، البشر، زملاؤنا على كوكب الأرض، فبعضهم يمارس دوره التاريخي المكرر بواقعية كبيرة، يدور في تلك العجلة مزهوا بهذه الرياح سريعة التقلب، والتي قررت أن تدفع قاربه قليلا، فسال لعابه سريعا، ومحا من ذاكرته العهد القريب الذي كانت فيه تلك الرياح نفسها مع غيره.

لأكون صريحا معك، فهذا لا يقف عندي في منتهى العجب، فلا زال الإنسان يصارع شهوته وعقله، ولا يزال ذاك العقل يضعف كلما مهدت الأرض أمام غريزته الفطرية التي تدعوه للاستمتاع باللحظة، ونسيان الماضي والمآل، غير أن تلك اللحظات الممتعة لا تحمل نفس المشاعر لبقية من تدور عليهم عجلة التاريخ، فالتاريخ يعلمنا أن المتعة محدودة، والسعادة ليست مشاعا للجميع، فكلما ازداد استهلاكها ممن يدور التاريخ لصالحهم، كلما شحت على من لا يسع التاريخ إلا أن يدور عليهم.

الغريب والعجيب في هذه الحركة، هو أن يجتهد من يدور التاريخ عليهم؛ وتشح السعادة عندهم، في التصفيق والتبرير والتمجيد المجاني، لمن قرار انتهاز فرصة التاريخ ونهب مقدراته حتى آخر قطرة؟

نفس تلك الآلة التي حكم بها فرعون قبل آلاف السنين، لا تزال صالحة في زمن ما بعد الثورات العربية، التخويف، والتبرير، وشراء الذمم.

ستجد ذلك الملأ الساذج سريع الاقتناع، والذي تحرك خلايا دماغه غريزة الرهبة من التفكير، والاستسلام لتفسيرات المستبد البينة البهتان، وتناسي الظلم بحجة القدر، وأنه لو طأطأ رأسه مع المطأطئين، فسيسعه ما يسعهم، ظلم عام يتحمله الجميع، أو إجرام خاص، يدفع ضريبة الأمن، ويرضى به كل أحد، رجاء ألا يكون هو التالي.

لإن كان الزمن قد تغير، وصرنا في عصر الإعلام الفردي، وأصبح الكلام يصل من أقصى الأرض إلى أقصاها، دون أن يقدر المستبد على قطع طريقه، فإن الزمن قد تغير على الجميع، والمستبد وأعوانه أيضا يستخدمون نفس تلك الأدوات

ثم يستمر الملأ في التطبيل والتمجيد وتصديق رواية المستبد، بل والدفاع عنها، بحجج ظاهرية واهية غير قابلة لمجرد النقاش المنطقي، وأخرى دفينة خفية، ولكنها مقنعة، أو أنها تبدو كذلك لدى المستضعفين، فالإن كان التصديق وتبرير رواية المستبد لا تضمن النجاة لأحد، فإن محاولة التشكيك فيها يضمن الهلاك الفوري.

إعلان

ولا يزال هذا المستبد كذاك، يمن على المستضعفين بما يسميه "الأمن والاستقرار" الذي جلبته لهم حركته الانقلابية السريعة، والتي مكنت له وذريته من أعناقهم، ولا يزال يخوفهم من دعاة الحرية، الذين يردون أن يخرجوهم من أرضهم.

فكيف تقنع مستبدا بتغيير خطة عملت بكفاءة على مدار آلاف السنين، لمجرد أن مستبدا آخر قد مارسها قبل 10 سنوات؟

ولإن كان الزمن قد تغير، وصرنا في عصر الإعلام الفردي، وأصبح الكلام يصل من أقصى الأرض إلى أقصاها، دون أن يقدر المستبد على قطع طريقه، فإن الزمن قد تغير على الجميع، والمستبد وأعوانه أيضا يستخدمون نفس تلك الأدوات، ويستمر صراع التخويف والتبرير وشراء الذمم وإن تغيرت أدواته.

وسينفذ من هؤلاء إلى صفحات التاريخ، من قرر أن يستخدم عقله، ويتحمل مسؤولية جرأته، ويصدح بما رأى بعينه، وينكر تلك الرواية الساذجة القميئة التي يعرف عوارها الجميع، غير أن الشجاعة لا المعرفة هي من تصنع الفارق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان