من الأسئلة التي تحضر بإلحاح شديد، هو لماذا يتمادى العدو الصهيوني كل هذا التمادي؟ ولماذا يطغى كل هذا الطغيان؟ ويعلو كل هذا العلو؟ لماذا يتصرف كما لو أنه يملك العالم أجمع؟ هل يعتقد حقا ألن يقدر عليه أحد؟ كما يستنكر تعالى: ﴿أيحسب أن لن يقدر عليه أحد * يقول أهلكت مالا لبدا * أيحسب أن لم يره أحد﴾ [البلد: 5-7].
فيأتي الجواب القرآني في آية عجيبة واصفة بحق لحالة هذا الإنسان الصهيوني، مفسرة لتصرفه، ومشخصة لدائه، ومشيرة إلى مصيره، إنها قوله تعالى: ﴿كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى﴾ [العلق:٦-٧].
بلغت به حالته المغترة بقوته المخدوعة بزينة الحياة الدنيا وبهرجها، إلى أن يرى نفسه كما قال تعالى حكاية عنه: ﴿يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري﴾ [القصص:٣٨]
والحقيقة أنها ليست حالة جديدة في الواقع البشري، فلقد مرت على هذه الأرض تجارب لطغيان الإنسان أفرادا وجماعات، كان يرى فيها نفسه مستغنيا ومكتفيا بذاته مستقويا بما عنده، كما نجد في بعض القصص القرآني، كقصة فرعون، الذي كان مغرورا غاية الغرور، يرى نفسه عاليا مستغنيا بما يملك من كل شيء، مغترا بغناه وقوته، لا ينازعه منازع، ولا يخالفه مخالف، ففي كل أقواله التي يحكيها عنه القرآن الكريم تسمع تلك النبرة الاستعلائية الاستغنائية، فها هو ينادي في قومه ويقول: ﴿ يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين﴾ [الزخرف:٥١-٥٢].
إنه يعلن في الملأ علوه، وقوة ملكه وغناه العظيم، ويضخم ذاته، فيما يحقر من شأن مخالفه، ويهون من أمره، وكان هو موسى عليه السلام؛ ويحقر من عظمة ما يتلو من الآيات، مخافة أن يقتنع الناس بدعوته الحق فيتبعوه، مستخدما تعبيرات التحقير، وأوصاف الإهانة والإذلال، بل وحتى التنمر عليه، بذكر ما كان في لسانه من العقدة، وكان ديدنه تحقير كل من يخالفه، وهو ديدن كل متسلط متجبر على الخلق، فها هو ذا يصف أتباع موسى عليه السلام: ﴿إن هؤلاء لشرذمة قليلون﴾ [الشعراء:٥٤].
وقد بلغت به حالته المغترة بقوته المخدوعة بزينة الحياة الدنيا وبهرجها، إلى أن يرى نفسه كما قال تعالى حكاية عنه: ﴿يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري﴾ [القصص:٣٨]، ﴿فقال أنا ربكم الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤]. لقد وصل إلى حد تأليه نفسه، ووضعها في قمة الاستثنائية والاستغناء والاستعلاء، ولذلك فقد طغا وعلا وتجبر وسعى في الأرض فسادا، لوصفه تعالى: ﴿إنه طغى﴾ [طه:٢٤].
وقوله: ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين﴾ [القصص:٤]. فكيف انتهت هذه الحالة الفرعونية الطغيانية؟
يخبرنا عالم الغيب والشهادة بنوع تفصيل: ﴿ فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين﴾ [الشعراء: 57- 67].
وجاء هذا المصير استجابة صادقة لما دعا به عليه موسى عليه السلام من ربه: ﴿وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون * وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين﴾ [يونس:٨٨-٨٩].
وهو الذي كان محتقرا من فرعون ومهانا، لكنه هو الذي نجى وانتصر ومن معه من المؤمنين.
لا نحتاج إثبات كيف أن هذا الإنسان الصهيوني يرى نفسه مستغنيا مكتفيا مستعليا علوا كبيرا، فيكفي إخبار القرآن بذلك منذ زمن بعيد جدا، حينما قال تعالى: ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا﴾ [الإسراء:٤]
أين ذهبت كل تلك الأموال والكنوز والأنهار والقوة والغنى؟ أليس كما قال تعالى: ﴿وما يغني عنه ماله إذا تردى﴾ [الليل:١١]، وأين ذهب ذلك المتعالي المتغطرس فرعون؟.
لا شك ونحن نتلو هذه الآيات ونتخيل مشاهدها في زماننا هذا، يحصل أن نسقطها على ما يجري في معركة طوفان الأقصى، فيخطر في البال أن هذه الحالة الفرعونية بمفرداتها التي ضرب بها الله تعالى المثل لحال تعاظم من نزلت فيهم بأموالهم وقوتهم، وهم المشركون أيام النزول، تتكرر، وهي تصلح مثلا لحال تعاظم واستعلاء الإنسان الصهيوني بقوته وعدده وعتاده اليوم.
ويأتي قوله تعالى: ﴿كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى﴾ [العلق:٦-٧]، ليقرر هذه الحالة، ليصفها على حقيقتها، ويضعها في إطارها العام، فيضع الأصبع على الداء، ويشير إلى المصير.
لا نحتاج إثبات كيف أن هذا الإنسان الصهيوني يرى نفسه مستغنيا مكتفيا مستعليا علوا كبيرا، فيكفي إخبار القرآن بذلك منذ زمن بعيد جدا، حينما قال تعالى: ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا﴾ [الإسراء:٤]، إن طابعه المتغلب، وداءه المزمن المتمكن، رؤية نفسه حالة استثنائية في الوجود، يحسب أنه يملك العالم، لا يحتاج إلى أحد، بل العالم يحتاجه ولا يستغني عنه، فيما الحقيقة الهائلة الماثلة أمامه اليوم أن العالم بدأ يتخلى ويستغني عنه لما صار يمثله من عبء ثقيلة ومخاطر كبرى.
وعودا على بدء، ما يفسر هذا التصرف الطغياني والعدواني المتمادي، وما يعلل هذا التجبر المتجاوز لكل الحدود والخطوط الحمراء، والمستعلي على كل الشرائع والقوانين، في الحالة الصهيونية، ذلك الداء الكامن في النفس الإنسانية المحدد في قوله تعالى: ﴿كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى﴾ [العلق:٦-٧]؛ حيث يقرر عز وجل أن الإنسان إذا رأى نفسه غنيا، طغى وتجبر "حقا إن الإنسان ليتعاظم ويتكبر ويتمرد على الحق، لأنه رأى نفسه ذا غنى في المال والجاه والعشيرة، ورآها -لغروره وبطره- ليست في حاجة إلى غيره" (في ظلال القرآن، قطب)
- لكن كيف للاستغناء أن يجعل الإنسان يتصرف على هذا النحو الطغياني؟
لعل الإجابة كما يبين ابن عاشور: "وعلة هذا الخلق أن الاستغناء تتحدث صاحبه نفسه بأنه غير محتاج إلى غيره، وأن غيره محتاج، فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة، ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصبو خلقا، حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح، فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم؛ لأن له ما يدفع به الاعتداء من لامة سلاح وخدم وأعوان وعفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأجراء، فهو في عزة عند نفسه، فقد بينت هذه الآية حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس، مع التنبيه على الحذر من تغلغلها في النفس. (التحرير والتنوير لابن عاشور)
فالأمر إذا يتعلق بذلك "الطبع الغالب في الإنسان، متى استغنى عن شيء عمي عن مواضع افتقاره، فتغيرت أحواله معه، وتجاوز فيه ما ينبغي له الوقوف عنده. (نظم الدرر للبقاعي)
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.