شعار قسم مدونات

الثيوليبرالية.. نعش امبراطورية الشر

تطورت سياسات النيوليبرالية نحو نموذجها الأخير الأكثر تصلبا وعنفا، والرافض لأي تنوع ديني وثقافي للمجموعة البشرية في فضاءها الحضاري. (الأناضول)

منذ حرب الاحتلال ضد غزة لم يتأخر الغرب في تقديم فروض الولاء للصهيونية، مستغلا هيمنته الحضارية على المؤسسات القانونية والمالية، وقد جاء قرار المدعي العام لمحكمة الجنايات استصدار مذكرة اعتقال لقادة الاحتلال.

مسمى آخر في سردية التفوق الغربي، الذي لم تحركه آلاف المقتولين والمهجرين من فلسطين، بل بضعة عشرات من الأسرى لدى المقاومة، ومع بربرية الإمبراطورية ضد طموحات المقاومة في التحرر والعدالة الإنسانية، وربطها الحل النهائي للمسألة الفلسطينية وتوقف الإبادة الجماعية للغزيين، عبر استسلام المقاومة واطلاق سراح الأسرى ونزع السلاح، تتجدد المخاوف بعد الاستغلال المخيف والمدمر لمفهوم ما اصطلح عليه "الحق في الحرية"، من لدن نخبة نيوليبرالية عززت سياستها الاقتصادية والاجتماعية لصالح المؤسسة الاستعمارية.

وبالنظر إلى حجم الاستلاب المطبق على الطموحات المناوئة للإمبراطورية، تأخذ النيوليبرالية شكلا مرعبا ضمن مرحلتها التاريخية الأخيرة تحت مسمى "الثيـوليبـراليـة"، حيث "الديكتاتورية الناعمة" ترسم الملامح الأكثر عنفا وشرا في تاريخ الليبرالية والرأسمالية المتوحشة، وليكون "التفويض للحرية المطلقة" تهديدا وجوديا لقيم التعايش بارتهانها لعصبة لا تؤمن بالحق إنساني.

شكلت الحرية في قوالب سياسية مرعبة ومخيفة للجنس البشري، وكانت تمثل الخلاص الأبدي للذين استعبدتهم مداخن مصانع الاستعمارية الغربية

الثيوليبراليـة.. المعنى والتحولات

تعتبر الحرية فعلا أساسيا للجنس البشري باعتباره مكلفا، وتتعلق بمجموعة التصرفات والأحاسيس والارتباطات التي يمكن أن تحدد التوجهات والمعاملات والأنماط الأخرى من الحياة، كما أنها اعتراف للآخر كونه يستحق العدالة والكرامة، وقد ساهمت الحرية في تشكيل سياسات اقتصادية واجتماعية كان لها الفضل في تطور البشرية، وابتداع حضارات وعلوم مختلفة.

إلا أنها لم تعد لها المكانة الأخلاقية والقانونية في الحضارة اليوم، فالمشكلة لا تكمن في مبدإ الحرية كونه اللبنة الأولى في تخليص البشرية من الديكتاتوريات والأحادية الفكرية، بل في قدرة البشر أنفسهم على تطويع التصور الأخلاقي والإنساني لها، فأن تكون حرا ليس بالضرورة أن تمنع الآخر من انتقادك، أو تقديم رؤية مغايرة عن تلك التي تصطنعها الخطابات المهيمنة.

شكلت الحرية في قوالب سياسية مرعبة ومخيفة للجنس البشري، وكانت تمثل الخلاص الأبدي للذين استعبدتهم مداخن مصانع الاستعمارية الغربية، وما بين الخوف من "فقدان الهيمنة" على الآخر الذي لا يملك تصورا ولا هوية ولا حتى اسما في نظر الغربي، و"التفويض المطلق" للرغبة الجامحة في السيطرة والاستعباد.

تطورت سياسات النيوليبرالية نحو نموذجها الأخير الأكثر تصلبا وعنفا، والرافض لأي تنوع ديني وثقافي للمجموعة البشرية في فضاءها الحضاري، ومكمن تلك التحولات الرهيبة للنيوليبرالية الغربية بعد أحداث العاشر من سبتمبر 2001، لم يكن متعلقا بقدرتها على مجابهة صراع الحضارات ولا الرهانات الاقتصادية، بل بقدرة الحضارة ذاتها على "تطويع القيم الإنسانية" من منظور أحادي يخدم هيمنة الإمبراطورية فحسب، حينها كانت سياسات تحرير السوق وإعادة صياغة البرامج التعليمية وإلغاء النقابات وازدياد المعونات المالية، ترسم خطوطا حمراء لاحتكار إنتاج فكرة الحرية المطلقة.

تستند الثيوليبرالية على أيديولوجية "تفويض الحرية المطلقة" للمهيمن، والعبودية الطوعية للمهيمن عليهم، إذ أن الأسواق الاحتكارية لم تتأخر في تبضيع سلع هوياتية وثقافية لا تخدم الحضارة في شيء، بقدر ما تمنح التحويلات المالية حركة انسيابية نحو مزيد من الثروة، ونفي الآخر وإلغاؤه ضمن سردية عالمية ملفقة، يكرس ما تجتبيه الثيوليبرالية للحضارة من تفسيرات إمبراطورية للهوية والثقافة والدين، فتكون الهجرة غير النظامية والابادة الجماعية والحق في المقاومة أهم التحديات التي تربك دينا نيوليبراليا مناهضا للإنسانية.

ترفض الحرية الخنوع لأيديولوجية معينة، وتمنح العالم البشري تنوعا يتجاوز به مختلف التراكمات التاريخية والتحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنها تصبح خطرا محدقا على الحضارة الإنسانية حينما يتم تطويعها كدين يستعبد الحقوق العامة للبشرية، والحاصل بعد موجات الربيع العربي وعملية طوفان الأقصى إنما فضح زيف صورة الثيوليبرالية، وكشف ملامحها الأكثر بربرية وعنفا ضد كل ما هو إنساني وحضاري، لتكون البديل للممارسات النيوليبرالية ونعشها الأخير.

تأتي الحرية في قوالب جاهزة من قبيل المثلية الجنسية والتطبيع، لكن لا يسمح لها في التعبير عن ذاتها المستلبة، عن طموحاتها في الديمقراطية والتغيير برؤيتها المحلية

قرابين الإمبراطورية

كان رد الاحتلال الصهيوني على عملية طوفان الأقصى يرتكز إلى تلفيقات حول جرائم قامت بها المقاومة، منها قطع رؤوس الأطفال والاغتصاب واحتجاز مدنيين لديها، لتحشد الآلة الصهيونية "العالم الديمقراطي" نحو وحل غزة، فاتكة بالآلاف من الأطفال والنساء، حتى إنّ الطواقم الطبية والصحافيين وعمال الإغاثة لم تسلم من القتل الممنهج بواسطة القصف أو القناصين، وكان دور الإمبراطورية الداعم الرئيس للاحتلال في عملية التهجير القسري توصيف ما يحدث من مجازر "أهدافا جانبية" تستغلها قوى الشر الفلسطينية.

حينما يكون "فعل الشر" توصيفا من الإمبراطورية فهو بالضرورة مقاومة للهيمنة، وما يفترض أنه خيري في سجل الولايات المتحدة الأميركية، قد تجاوز خطوط المنع في استهداف الحق في الحياة والعدالة والحرية، وهذا ما كان ملاحظا في تصريحات أنتوني بلينكن وزير خارجية أميركا حينما أجاب عن أسئلة لجنة الكونغرس، أن وقف الحرب في غزة متعلق بإلقاء المقاومة للسلاح، واطلاق سراح المخطوفين، مبررا كل أشكال الشر التي دفعتها الصهيونية ليس في غزة فحسب، بل بالضفة الغربية حيث يجلس ممثلها عبّاس مرابطا على عدم تكرار انتفاضة فلسطينية.

تجسد الإمبراطورية حالة الشر المؤسساتي العابر للقارات والهويات والثقافات، إذ أن اعترافها بالحق في القتل للمحتل قوض القانون الدولي والإنساني، وتجييش الولايات المتحدة الأميركية العالم في حربها على أفغانستان 2001 وفق "من ليس معنا فهو ضدنا" صنع منها امبراطورية الشر بامتياز، ورسخ فكرة الهيمنة والاستلاب والإسلاموفوبيا، في عالم تتدافعه هواجس الاعتراف والتضامن والتعايش الإنساني.

تأتي الحرية في قوالب جاهزة من قبيل المثلية الجنسية والتطبيع، لكن لا يسمح لها في التعبير عن ذاتها المستلبة، عن طموحاتها في الديمقراطية والتغيير برؤيتها المحلية، عن أصواتها المقموعة في سجون الديكتاتوريات والمؤسسات الثيوليبرالية، بل إنها تكون قربانا للإمبراطورية في سبيل تحقيق مكاسب آثارها الأكثر إيلاما وعنفا على الذين يتوقون لمحاسبة رعاة السرديات الملفقة.

وما يشهده العالم من تكالب على جغرافية صغيرة قد حشر الملايين بها ضمن سجن مفتوح، لهو مأساة حقيقية ونكبة حضارية وخذلان غير مسبوق، فادعاءات الولايات المتحدة واتهامها المتكرر للمقاومة وتحميلها تبعات السابع من أكتوبر، يعد ضربا من جنون غطرسة الشر الضارب عمق التفكير المؤسساتي الغربي، والجنوح إلى تهميش صوت الحقيقة وعدم الاعتراف بخطيئة الوعد التاريخي في التهجير والإبادة، يعيد ذاته مع سرديـة فلسطينية تأبى أن تفنى أمام عبثية النظام الدولي.

ليست "الحرية دينا" بقدر ما هي انتماء إنساني وارتقاء حضاري يرسم ملامح عوالم متعايشة، ومهما بدت محاولات تطويع "مفهوم الحرية" وتمثيلاتها الحضارية، فإنّها سرعان ما تنفك عن عقدة الهيمنة، لتشق طريقها نحو الخلاص والانعتاق، حيث الإنسان جوهر الوجود وآية الله في خلقه.

 

 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان