كيف يحدث التغيير الاجتماعي والسياسي؟ إذا أردنا أن نكون عمليين أكثر، كيف يمكننا إحداث تغيير في مجال أو قضية معينة؟ المجتمعات الحقيقية أنظمة معقدة، فلا يمكن معرفة كيف سيسير التغيير على نحو مسبق ولا يمكن رسم مراحل معينة ينتقل فيها التغيير كما هو مرسوم، في النظام المعقد يمكن لتغيير طفيف أن يولد سلسلة من الأحداث تؤدي إلى تغييرات كبيرة، جسم الإنسان نموذج ممتاز للنظام المعقد، فيمكن لألم في أحد الأسنان أن يغير نظام الجسم ويقلبه رأساً على عقب، كيف يمكننا أن نتحرك داخل الأنظمة المعقدة؟
الانتقال والتحول عمل تمارسه الطيور طوال الوقت تقريبا، إذا فحصنا الانتقال الجماعي للطيور من مكان إلى آخر وفحصنا منطق الطير في تشكيل السرب الضخم والتحرك من خلاله، سنجد حراكا جماعيا مذهلا يمكننا التعلم منه، توجد عدة أنماط لحركة الأفراد ضمن مجموعات، كل نمط يصلح لوضعيات دون أخرى، لدينا نمطان أساسيان: السرب المنظم السرب المنسق.
كشفت الدراسات الحديثة -خاصة على طيور أبو منجل والإوز- أنها تتحرك بهذه التشكيلات كي تستفيد من الاضطرابات الهوائية، فكل طائر حين يضرب الهواء بجناحيه يولد طاقة تساعده على التحليق وتساعد الطائر الذي يليه في السرب
السرب المنظم.. ضبط إيقاع وتنظيم فائق
سرب من الطيور يطير وفق هيكل محدد وتوزيع أدوار وصلاحيات واضحة، تتموضع الطيور في السرب ضمن تشكيلات متناسقة للحصول على حركة دفع إضافية من خلال حركة الطيور الذين في المقدمة، أشهرها السرب الذي يأخذ شكل حرف "V" فيلتزم كل طير بموقعه المحدد في هيكل السرب، في مقدمة السرب قائد يصدر القرارات ويحدد الاتجاه ويقرر السرعة.
كشفت الدراسات الحديثة -خاصة على طيور أبو منجل والإوز- أنها تتحرك بهذه التشكيلات كي تستفيد من الاضطرابات الهوائية، فكل طائر حين يضرب الهواء بجناحيه يولد طاقة تساعده على التحليق وتساعد الطائر الذي يليه في السرب، وعلى كل طائر أن يضبط حركة جناحيه لتكون متزامنة مع حركة أجنحة الطيور المجاورة له، فهذا يولد تيارا هوائيا يجعل الطيور تنزلق فوقه دون أن تبذل جهدا إضافيا، هكذا بإمكان طيور السرب أن تقطع مسافة تعادل 71% أكثر مما لو طارت منفردة.
في هذا النمط من عمليات التغيير يتم تنظيم الحركة الجماعية بشكل واضح، فتجد مؤسسة أو كيان له أهداف واضحة وهيكل تنظيمي وتوزيع صلاحيات وأدوار وقرار، سواء كانت مركزية أو لا مركزية، حتى الدولة من هذا المنظور هي سرب منظم، ومؤسس المجتمع المدني سرب منظم، وشركة تصنيع السيارات سرب منظم.
يتواصل كل طائر مع بقية الطيور بشكل سريع خاصة مع الطيور المجاورة له، فإذا جاءته رسالة من طير مجاور أن هناك صقرا يهاجم السرب من طرف اليمين، فإنه يجب أن يتفاعل بسرعة ويتحرك وفق تلك الرسالة
السرب المنسق.. قواعد بسيطة وحركة معقدة
سرب ضخم من الطيور يضم مئات أو آلاف الطيور التي تتحرك كمجموعة واحدة متماسكة، وتحت الماء نشاهد السرب الآخر يضم مئات وآلاف الأسماك تتحرك كمجموعة، كيف يتحرك السرب بطريقة يبدو فيها وجود منسق ذكي يخبرها كيف تتحرك بتناغم كل ثانية رغم أن الحركات شديد التقلب والحساسية للفرص والمخاطر المحيطة؟
هناك سلوك جماعي معقد رغم عدم وجود منسق رسمي لسرب الطيور والأسماك يصدر الأوامر ويعطي التوجيهات، في هذا النوع من الحركة الجماعية هناك روح وقواعد هي التي تتولى القيادة والتنسيق بكفاءة مدهشة.
هذا النوع يشتغل وفق "التنظيم المعقد" الذي يتكون من خطين متوازيين:
الخط الأول: قواعد بسيطة
كل طائر يجب أن يتصرف ويتحرك وفق ثلاث قواعد:
- ابق قريبا: يلتزم الطائر أن يبقى في حركته وطيرانه قريبا من الطيور المجاورة له في السرب، بشرط أن يترك مسافة بسيطة ولا يلتصق بها، حتى يتمكن من المناورة ولا يتأذى منها إذا ارتكبت خطأ بل يكون عنده مجال للتدارك والتصحيح. وكذلك الأسماك تلتزم كل سمكة بالسباحة قريبا من الأسماك المجاورة في السرب.
- تابع التحليق: على كل طائر أن يتابع الطيران دون توقف، لأنه سيؤذي نفسه ويؤذي السرب معه، الكسل أو القرار الفردي بالتوقف يسبب مشكلة، يمكن للطائر أن يغير مكانه داخل السرب لكن ليس له أن يتوقف عن الطيران.
- تفاعل جيدا: يتواصل كل طائر مع بقية الطيور بشكل سريع خاصة مع الطيور المجاورة له، فإذا جاءته رسالة من طير مجاور أن هناك صقرا يهاجم السرب من طرف اليمين، فإنه يجب أن يتفاعل بسرعة ويتحرك وفق تلك الرسالة (التقط الرسائل وأرسلها بشكل صحيح، تجاوب معها بسرعة). الأصل في هذا التفاعل الثقة حتى يثبت العكس، بدون الثقة سينهار السرب فورا، لأن حركته كسرب مبنية على التجاوب مع رسائل الطيور المجاورة أن تتحرك يمينا أو شمالا، محور الحركة الجماعية هنا هو الروابط والعلاقات القائمة على الثقة.
الخط الثاني: امتداد بأعداد ضخمة
عشرة أسماك أو طيور لن تشكل السرب بتلك القوة ولو طبقت القواعد الثلاثة، لكن إذا انضم عدد كاف من الطيور أو الأسماك سيتشكل شيء جديد هو "السرب"، بشرط أن تلتزم بالقواعد الثلاثة في تحركاتها وإلا أصبحنا أمام ركام من الفوضى العارمة. مع تشكل السرب تحدث ظاهرة "البزوغ" حيث تنشأ سلوكيات وخصائص يقوم بها السرب بطريقة تلقائية، كأن هناك "منسق خفي" يقود السرب بشكل واع ويصدر القرارات لحظيا.
يكون للسرب قوة هائلة تتجاوز مجموع قوة الطيور الأعضاء فيه، يعني لنفرض أن كفاءة وقوة الطير الواحد (10) وكان لدينا (1000) طير، فإن قوة السرب لن تكون مجموع القوى الفردية وهو قوة الـ (100) بل ستكون قوة مرفوعة إلى عشر أضعاف (10.000) مثلا. بهذه القوة يستطيع سرب الطيور أن يواجه صقرا مهاجما، ويستطيع سرب الأسماك أن يواجه سمكة قرش أو حوتا عملاقا أو نسرا قاتلا.
مد خيوط التواصل بين فاعلين متنوعين هو المغزى النهائي لمنطق الطير المنسق، ثم يأتي التفاعل والتجاوب السريع ليجعل حركة التغيير فائقة الأثر
عمليات التغيير
في عمليات التغيير نحتاج إدخال منطق الطير، بنمطيه السرب المنسق السرب المنظم، كل نمط يعمل ضمن معطيات وسياقات مناسبة له، نجمد أحيانا على نمط السرب المنظم، حينها نخسر القدرة الفائقة التي يتيحها التنظيم المعقد في تحريك الجموع الهائلة وتعظيم الأثر المتوقع، يحتاج هذا إلى "تواصل وتنسيق" مع كل الأسراب المنظمة، ويتطلب في المراحل المتقدمة تشارك الموارد والخبرات وسيولة المعلومات بدرجة كافية، خاصة مع الذين يتحركون في نطاق قريب.
نحتاج منطق الطير هذا في الحركات الاجتماعية الجديدة، خاصة الحركات الشبابية، لنفترض أن هذه الحركة تحمل قضية فلسطين للعالم، فإن المؤسسات والأفراد يجب أن يبقوا قريبين من بعضهم في تحركهم من خلال التواصل والتنسيق وتبادل المعلومات، رغم أن كل مؤسسة وفرد يتحرك بطريقته ومن موقع مختلف إلا أن البقاء قريبا يفرض علينا عدم الابتعاد عن القضية ويمنحنا جميعا قوة أكبر، حين نبتعد عن القضية فنحن نفكك سرب التغيير بشكل فوري ونتحول طيور متناثرة في مهب الرياح العاتية.
أن نبقى قريبين ونتابع العمل والنضال لقضيتنا دون توقف، مهما كان العمل صغيرا، قد يكون وقفة في جامعة أو مقاطعة اقتصادية أو مظاهرة في ميدان أو منشورا على وسائل التواصل أو كلاما مع صديق أو تمويلا ودعما لمن هم في الميدان، فإنه ضمن السرب يكتسب العمل الصغير قيمة مضاعفة وتأثيرا أكبر من حجمه، ثم نحتاج أخيرا إلى التفاعل والتجاوب مع بعضنا بشكل سريع، خاصة في تحسس الفرص والمخاطر.
مد خيوط التواصل بين فاعلين متنوعين هو المغزى النهائي لمنطق الطير المنسق، ثم يأتي التفاعل والتجاوب السريع ليجعل حركة التغيير فائقة الأثر، لا ينبغي لأحدنا أن يبقى بعيدا عن قضيته وعن أصحاب القضية الذين يناضلون ويجاهدون، ولا ينبغي له أن يترك نفسه دون سرب يتحرك معه، ولا ينبغي أن يكتفي بسربه المنظم دون التواصل وتنسيق الحركة مع الآخرين لتكون محصلة حركتهم على شكل سرب بالغ الضخامة والقوة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.