قل للناس أنك تؤلف كتابا عن الزمن، وستتلقى ردود أفعال مدهشة! سيحتار البعض منهم، أو يهزون أكتافهم بلا مبالاة ويسألون: "وماذا عن الزمن؟!"، وكأن من الصعب وجود ما يكفي من الأمور المشوقة لتأليف كتاب كامل عنه (ألا يمر الزمن فحسب؟!)، أما البعض الآخر فيبدو أنهم يفهمون إغراءه على الفور، ويتساءلون عن مواضيع محددة: "هل ستكتب عن السفر عبر الزمن؟!"، "طبعا" أجيبهم، وأؤكد لهم أنني سأخصص فصلا بأكمله للسفر عبر الزمن، رغم أنه مستحيل كما أخبرهم، لكنه يطرح أسئلة ساحرة عن طبيعة الزمن نفسه وعن الفضاء وقوانين الطبيعة.
لطالما اتسم الزمن كمفهوم بالغموض والإغواء في آن واحد، ذلك أنه مفهوم أولي، لا هو مشتق من غيره ولا هو قابل للاختزال لمفاهيم أبسط. مفهوم متراكب يحوي طبقات من الوجود ظاهرة وباطنة
بعض الناس يخمنون أنني أؤلف كتابا عن الفيزياء، ولا بد أنه سيكون تقنيا متخصصا، فيه الكثير عن الإنتروبيا وحدود العالم وما إلى هنالك. لكن.. كلا، أطمئنهم، على الأقل بأنه ليس كتاب فيزياء فحسب، هدفي هو مقاربة أوسع للغز الزمن من اتجاهات متعددة، يحمل كل منها وجهة نظره وبصيرته الخاصة، وسجل نجاحاته وخيباته. في الواقع، يجب أن نقارب الزمن من عدة زوايا، إذ لا يوجد جواب بحوزة أي فرع من فروع العلوم مهما كان.
هكذا قدم دان فالك كتابه "In Search of Time: Journeys in a Curious Dimension"، ليكون مزيجا بين العلم والفلسفة والتاريخ بطريقة سلسة ومثيرة للاهتمام، مما يجعله مناسبا للقارئ العام والمختص على حد سواء، ونظرة شاملة ومعمقة لمفهوم الزمن عبر مختلف العصور والتخصصات.
فلطالما اتسم الزمن كمفهوم بالغموض والإغواء في آن واحد، ذلك أنه مفهوم أولي، لا هو مشتق من غيره ولا هو قابل للاختزال لمفاهيم أبسط. مفهوم متراكب يحوي طبقات من الوجود ظاهرة وباطنة، له أبعاد غيبية وملامح وجودية وبصمات على الذات. وبقدر ما يبدو كينونة مألوفة وملازمة للوجود البشري بقدر ما تكتنفُه هالة من التعقيد. يتدفق أمام أعيننا، لا ينفك عن مقدماته السابقة ولا مساراته اللاحقة. يسجل لحظات حياتنا، ويمتد بلا حدود في عقولنا، يحمل تفاصيل الحياة لمنتهاها: زمن الحزن الممتد.. وزمن الفرح المتعجل، زمن القرب الذي يتفلت منا وزمن الفراق الذي يطول.
ويظل يطرح إشكاليات مفاهيمية تسوغ استمرارية غموضه، كيف يمكن لهذا البعد الواحد أن يحمل كل هذا الثقل والعمق؟ وكيف يمكن أن يكون له كل هذه النوافذ المتعددة التي ينظر من خلالها العلماء على الأصعدة التاريخية والثقافية والفلسفية والفيزيائية، فيرى كل منهم جانبا مختلفا من نفس البعد؟
أتذكر أني قرأت نصا جامعا لمفردات الزمن للدكتورة هبة رؤوف عزت: "مفردات الزمن جزء أصيل من وجودنا: الاستباق والتقادم، الأجل والمهلة، الهون والبغتة، التأني والعجلة، وطول الصبر. والزمن لا يستقل بذاته عن العالم، هو نتاج حركة الأفلاك ومعمار الكون وناموس الآفاق، لكننا نحن من نمنحه المعنى. قارن بين زمن الحب وآجال المعاناة، زمن الغضب ومرارة الفقد وطول الندم، استعجال النضج، والأسى على ما مضى، "متى يكون.." الترقب، و"لو.." الحسرات… والذاكرة التي تجمع الأزمنة وتعيد ترتيبها، والنسيان وما لا يُنسى. اللحظات والأيام والسنوات… المواقيت والمواعيد… والإمهال. وقت الشغل ووقت الفراغ.. ومعنى المعاصرة والتاريخ. وكيف يأتي المستقبل ليجتاح الحاضر، الرقمية والحسية ودقات الساعة ووهم الخلود… والسقوط. أزمنة الأصل في تكوين الخلية وساعاتك البيولوجية وموعد الوفاة. الأزل… والأمد… والأبد… والمدد".
الاستزادة لن تأتينا بطريقة ميكانيكية، يجب أن نفتح حواسنا وعقولنا وأن نعمل لشق طريقنا نحوها، ولن يحصل هذا الأمر إلا بمثابرة ومشقة تقودها بصيرة شغوفة
كأنها تقول باختصار مربك نحن مخلوقات الزمن، ومتجذرون فيه. يأخذ كينونته من وعينا البشري، ولا يتجلى منفردا بذاته بل يتلازم دوما في هيئة ثنائيات: الزمن والمكان، الزمن والوعي، الزمن والذاكرة؛ وهنا تكمن الدهشة، الذهول، الخوف والارتباك!
لو أردت الحديث عن نفسي لكشف خط تطوري الشخصي وفق الزمن فسأقول: أراني أحيانا أسير وفق مسار دائري، بدايته متصلة بنهايته، ما يمنحني دائما رفاهية البدء من جديد. وأحيانا أخرى أرى هذا التصور إجحافا بحق ما خضته من تجارب على طول ذلك المسار، وما اكتسبته من خبرات ومن نضج ووعي، لأني صرت كائنا مختلفا عما كنته.
الاختلاف هنا ليس اختلافا استلابيا سيء المفاعيل والنواتج؛ بل أحسبه اختلافا صحيا كشف لي فقر واقعنا الثقافي والعلمي وهشاشة مؤسساتنا الثقافية والسياسية أيضا. وبالتالي تكون البدايات الجديدة مثقلة بتجارب النهايات وخبراتها، لتعطي منظورا أوسع وأعمق.
ربّما يقدم المسار اللولبي أو الحلزوني فهما ديناميكيا أكثر، كمحاولة لتصور الطبيعة المعقدة والمتعددة الأبعاد لمسار حياتنا، إذا ما أخذنا في الاعتبار التغيرات في الميل (تغير المعتقدات وتشرب مفاهيم وعلوم جديدة) والاستثارة للمدار (الظروف التي تفرض علينا، التحديات، العوائق وحتى النجاحات) إلى جانب الحركة المدارية المفترضة بداية كمفصل زمني وأداة قياس مرجعية للمقارنة مع الماضي.
قد يأتي شخص آخر ويقول أنه يفضل تصور مساره بسهم للزمن ذي اتجاه واحد من الماضي إلى الحاضر، ومن ثم نحو المستقبل المجهول. في حركة مقيدة أو محكومة بهذا الاتجاه لسهم الزمن دون الأخذ بأبعاد أخرى، لكن على ضوء التراكم المعرفي المستجد، يبدو لي التصور اللولبي لخط تطوري الشخصي أكثر ملاءمة، وهذه حالة طبيعية لكل شخص يستزيد خبراته مع الزمن؛ لكن هذه الاستزادة لن تأتينا بطريقة ميكانيكية، يجب أن نفتح حواسنا وعقولنا وأن نعمل لشق طريقنا نحوها، ولن يحصل هذا الأمر إلا بمثابرة ومشقة تقودها بصيرة شغوفة.
لقد تم تأليف عدد لا حصر له من الكتب عن مفهوم الزمن على مر السنوات، كمحاولة لإعادة ترتيب معناه وتشابكاته وتشظي منطقه وتشرذمه. أذكر منها – مثلا – كتاب "نظام الزمن" للفيزيائي العالمي كارلو روفيللي. "نسبية الزمن" من تأليف ألبرت أينشتاين، يتناول فيه نظرية النسبية العامة والخاصة، حيث أطلق ثورة في فهمنا للزمن من خلال نظريته للنسبية الخاصة، بين من خلالها أن الزمن ليس مطلقا، بل يمكن أن يتغير حسب سرعة المراقب، ثم توسع في نظريته للنسبية العامة، حيث دمج الزمن مع الفضاء ليشكلا نسيجا واحدا يعرف بالزمكان.
وفقا لهذه النظرية، الكتل الضخمة مثل النجوم والكواكب تحدث انحناء في نسيج الزمكان، مما يؤدي إلى تغير في سرعة مرور الزمن. كلما كانت الجاذبية أقوى، كلما تباطأ مرور الزمن.
يشكل أيضا كتاب "الزمن والسرد" واحدا من أهم الأعمال الفلسفية التي صدرت في أواخر القرن العشرين، حتى لقد وصفه المنظر التاريخي "هيدن وايت" بأنه أهم عملية تأليف بين النظرية الأدبية والنظرية التاريخية أنتجت في قرننا هذا. وارتأى باحثون آخرون أنه يشكل قمة من قمم الفلسفة الغربية يضفي فيها "ريكور" دما ولحما على نظرية "كانط" في الخيال المنتج، ويعطي تطبيقا سرديا لنظرية "هيدغر" في فهم الزمان الأنطولوجي.
والكتاب الذي بدأت مقالي بمقدمته لدان فالك بعنوان "في البحث عن الزمن: رحلات في بعد مدهش". يختلف هذا الكتاب عن غيره بكونه يقدم تناولا شاملا لمفهوم الزمن في سياق تاريخي وفلسفي وفيزيائي، وهذا ما يمنحه ثراء معرفيا عاما للجمهور. الجدير بالذكر أن المؤلف ليس متطفلا على المشغل الفلسفي والفيزيائي لأنه يمتلك تحصيلا دراسيا في الفيزياء والصحافة والكتابة العامة.
الزمن قرين الوجود، الانفكاك عنه موت أو جنون. وأن ملايين من سنوات التطور البيولوجي، فضلا عن آلاف السنوات من التطور الثقافي والعلمي، رسخت في عقولنا فلسفة "تدفق" الزمن رغم أن هذا التدفق غير واقعي، وهم ليس أكثر
ويناقش فالك في فصل الذاكرة وإدراك العقل للزمن كيف يلعب العقل البشري دورا في إدراك الزمن، وكيف يمكن للذاكرة البشرية أن تؤثر على تجربتنا الزمنية؛ كيفية تشكل الذكريات وكيفية استرجاعها، وتأثيرها على شعورنا بمرور الزمن.
إلى جانب ما ذكرت من كتب لن يفوتني ذكر "دورات الزمن: نظرية جديدة غير عادية للكون" (Cycles of Time: An Extraordinary New View of the Universe)، لفيزيائي المتحصل على جائزة نوبل روجر بنروز، والذي يقدم من خلاله نظرية جديدة حول الكون تعتمد على مفاهيم مبتكرة للزمن، حيث يناقش فكرة "الكون الدوري" وكيف يمكن أن يكون للزمن بداية ونهاية تتكرران بطرق غير متوقعة. ويعرض بنروز نظريته كبديل لنموذج التضخم الكوني التقليدي، وهو بهذا يتحدى الأفكار التقليدية حول الكون والزمن، ويقدم رؤية مبتكرة لكيفية عمل الكون عبر دورات لا نهائية.
يمكن للقارئ بعد إتمام هذا الترحل المدهش في مؤلفات الزمن أن ينتهي إلى خلاصة تتجوهر فيها آراء فلاسفة العلم والفيزيائيين المعاصرين، مفادها أن: الزمن قرين الوجود، الانفكاك عنه موت أو جنون. وأن ملايين من سنوات التطور البيولوجي، فضلا عن آلاف السنوات من التطور الثقافي والعلمي، رسخت في عقولنا فلسفة "تدفق" الزمن رغم أن هذا التدفق غير واقعي، وهم ليس أكثر، إلا أنه خلق معضلة شديدة التعقيد يشترك فيها الفلاسفة والعلماء على حد سواء. وكأن العالم الرأسمالي لم يكتف بهذه المعضلة فراح يزيدها تعقيدا بإعادة صياغة الوقت ليغدو ترسا في آلة الإنتاج، لا حاملا للمعنى ولا بداية لاستقامة المسار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.