مثلت حرب الإبادة في غزة مرحلة حرجة من تاريخ البشرية، وامتحانا مربكا للحضارة بقيمهما الإنسانية والقانونية، ولعل ما يجري في ساحات الجامعات الغربية، وعلى ضفاف التحركات الدولية ضد حكومة الاحتلال الصهيوني، يرسم ملامح جديدة نحو عالم تزاح فيه أسطورة الشعارات الرنانة، وتلغى فيه السردية الصهيونية.
وما بين البندقية في وجه المحتل الذي يستهدف طواقم الإغاثة والمستشفيات والمدنيين، وجولة المفاوضات التي تقودها حركة حماس، يخرج نتنياهو معلنا قرار إغلاق حكومته المتطرفة مكتب قناة الجزيرة، في اليوم العالمي لحرية التعبير، ولتنبري الأصوات المناهضة للصهيونية داخل أروقة الأمم المتحدة، كاشفة معها هشاشة الاحتلال الإسرائيلي أمام الكاميرا المقاومة.
الامتحان الأكبر الذي ليس باستطاعة الاحتلال حظره، هو انقسام المجتمع الصهيوني المتصاعد الذي كشفته شبكة الجزيرة، وتلاشي "حلم الدولة اليهودية" المرفوض جماهيريا ونخبويا، وما افتعله طوفان الأقصى من هزات في البنية الاجتماعية للمحتل
صور التآكل الصهيوني
منذ قيام الاحتلال الصهيوني، ظلت سردية معاداة السامية والمظلومية التاريخية لليهود تأخذ أبعادا وصورا أكثر عنفـا للاعتراف بها، واضعة خطا لممارسات سياسات الهيمنة الامبراطورية لتبرير تواجدها في الشرق الأوسط، وكان العمل على رسم صورة إسرائيل وتصديرها كدولة حضارية وديمقراطية الوحيدة في المنطقة، بمثابة قالب إعلامي وفق أجندة استعمارية يصعب التخلص منها حتى مع تحقيق حل الدولتين، إذ إن سياسات الاستيطان والتهجير التي كانت تنتهجها الحكومات الإسرائيلية على اختلاف توجهاتها اليسارية/اليمينة، لا تسمح بفتح ممرات آمنة لأي "تسوية مستقبلية" ضمن الإطار القانوني والإنساني المقرر في الأمم المتحدة، بل إن اتفاق أوسلو لم يمنح للإسرائيليين سوى التعنت والمماطلة بالاعتراف بدولة فلسطين.
حالة اللاستقرار التي تعيشها إسرائيل "الدولة"، لم تكن استثناء في معادلات التاريخ ولا ظرفا غير عادي لقومية يهودية تخوض صراع البقاء، بل يمكن اعتبار الكيان الإسرائيلي "فضاء غربيا ثالثا" مثخنا بالكراهية والعنصرية واللاإنسانية، بعدما استنسخت الاستعمارية ديكتاتوريات في مستعمراتها السابقة للحفاظ على حدائقها الخلفية التي تعدها هي الأخرى فضاء ثانيا لاستقرارها الاقتصادي واستمرارية هيمنتها الحضارية.
وبالنظر إلى ممارسات الاحتلال الصهيوني التي لا يمكن مقارنتها بمجازر النازية، بل تفوق بكثير معسكرات الاعتقال والقتل الألمانية، فإن أي حرب تتورط بها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون كانت تبعاتها ترتد على الداخل الصهيوني، في وقت استطاعت النيوليبرالية تطويع المؤسسات الدولية والإنسانية لصالح رؤيتها الاستيطانية وتوهمها حظر أي انتصار للحق في الحياة والمقاومة، ومع أن نتائج حرب الإبادة التي تقودها الصهيونية ضد شعب فليسطيني أعزل، فإن سرديتها التاريخية وصورة مظلوميتها باتت "عبئا لاأخلاقي" على الوعي الجماهيري والنخبوي في العالم، وأسطورة أحرقت مع قذائف الميركافا داخل الجغرافيا التي منحت شتات "العنصرية الغربية" حلم الميعاد.
يواجه الإسرائيلي اليوم حالة رعب شديدة جراء المخاوف المتزايدة بسبب تداعيات الحرب على غزة، والتي لم تحقق أي أهداف تكتيكية ولا إستراتيجية على الساحة، بل لا تحمل طلائعها أي أفق لما اعتبر "اليوم التالي"، وإلى جانب التآكل السياسي الذي مني به القادة الإسرائيليون وتزايد الانشقاقات داخل مجلس الحرب.
فإن الامتحان الأكبر الذي ليس باستطاعة الاحتلال حظره، هو انقسام المجتمع الصهيوني المتصاعد الذي كشفته شبكة الجزيرة، وتلاشي "حلم الدولة اليهودية" المرفوض جماهيريا ونخبويا، وما افتعله طوفان الأقصى من هزات في البنية الاجتماعية للمحتل، لن ينتهي مع توقف الحرب والرضوخ لعملية مفاوضات بين الجانبين، بل إن السماح للأصوات الأكثر تطرفا للعب دور سياسي سيتجاوز الحد الذي يفقد فيه الكيان الصهيوني القدرة على استيعاب "جولـة سلام".
وفق الخطاب الإسرائيلي فإن تهديدات المقاومة والمخاوف من قيام دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال والمستوطنات، تمثل الركيزة الأساسية لصناعة هوية الشتات المستورد من الغرب، ومع اختلاف تمثلات القومية اليهودية وتشبعها بالمظلومية التاريخية الناجمة عن استغلال النيوكولنيالية للسردية الصهيونية في سياق أكثر حدة وعنفا، فإن الإسرائيلي لا يملك صورة واضحة لماهية الروابط الاجتماعية المعززة لمفهوم الدولة خارج نسقه الديني.
ومثلما كانت البدايات في انتزاع أراضي الفلسطينيين وتهجيرهم وقتلهم من طرف عصابات الشتات، يبقى "الصراع الوجودي" للاحتلال ليس مع الفلسطيني فحسب، بل مع القيم الإنسانية والحضارية المعززة للحق في الكرامة والعدالة الحرية، وطوفان الأقصى تجاوز الحظر المفروض على المسألة الفلسطينية، وكشف لليهودي الذي لم يتمكن من الاندماج في المجتمعات الأوروبية، فشل مشروع الاستعمارية الغربية في انتزاع الزيتون عن تاريخه.
نقلت عدسة الجزيرة تفاخر الاحتلال بالميركافا تقصف العمارات والمباني والمهجورة، وانتقام المسيرات الصهيونية من كل نفس نجت من التنكيل والتعذيب، وقدمت للعالم صور الجرافات الإسرائيلية وهي تنبش القبور بحثا عن المفقودين
حين تغلبت كاميرا الجزيرة على الميركافا
يستمر الحراك الطلابي في الحواضن الصهيونية، وتتزايد وتيرة الرفض الطلابي والجماهيري للسردية الإسرائيلية، ومع ارتقاء المزيد من الشهداء الفلسطينيين، تتساقط أحجار اللعبة الاستعمارية الممتدة منذ أن وطأت الكولونيالية الغربية المنطقة الواحدة تلو الأخرى، ليلقي الاحتلال بفشله الأخلاقي والسياسي طيلة عقود من القتل والتهجير، على العدسة التي فضحت زيفه وبربريته، ونقلت للعالم الذي يفترض أنه الأمين على الحضارة، حجم الكارثة الإنسانية التي تسببت بها الآلة الصهيونية.
كانت كاميرا الجزيرة في مقدمة الصفوف تنقل خراب الميركافا وهي تعيث قتلا في المدنيين، وفقد الكثير من مراسيلها ذويهم، وقدموا أرواحهم قربانا للحرية والإنسانية، ومثلما كان الميدان شعار شبكة الجزيرة التي اقتفت آثار الدمار والتهجير، واقتنصت العديد من الصور المرعبة للخراب الذي أصاب العمران وأهله، فهي الأخرى لم تسلم من دعوات التحريض ضدها وحظرها من أعلى سلطات الاحتلال.
نقلت عدسة الجزيرة تفاخر الاحتلال بالميركافا تقصف العمارات والمباني والمهجورة، وانتقام المسيرات الصهيونية من كل نفس نجت من التنكيل والتعذيب، وقدمت للعالم صور الجرافات الإسرائيلية وهي تنبش القبور بحثا عن المفقودين، حتى إن صحافييها كانوا يعانون مما يتجرعه الفلسطينيون في غزة.
فرائحة الموت في كل مكان، والدماء في الطرقات، والأشلاء تأكلها القوانع، ولا عزاء للقتلى سوى بضع من المصلين، ومع هذا الخوف الذي اجتاحنا نحن الذين خذلنا أهلنا في غزة، بقيت الجزيرة صامدة أمام ترسانة إعلامية دولية، خطها التحريري الأول تجريم المقاومة وتقديم فروض الولاء لحكومة تجاوزت كل الخطوط الحمراء، ووضعت حفنة التراب الأخيرة على المواثيق الدولية.
هي الجزيرة بنخبتها وصحافييها ومحلليها، مثلت جيشا لا يحمل في يديه سوى كاميرا يحامي بها عن المقهورين والمغيبين، لتواجه بصورها ومبادئها التحريرية أعتى أدوات القتل النيوكولنيالية، كاشفة هشاشة قوة المحتل أمام عدستها.
عدسة كان بإمكانها الانجرار خلف الخطاب السائد في تجريم المقاومة، واعتبارها منظمة إرهابية وفق التوصيف الغربي، إلا أنها انزاحت بكل قوة إلى الحق الإنساني، وإلى الصوت المقموع، ولتكون رايتها في السلم والحرب مع الإنسان.
هكذا هي الجزيرة بمشروعها الإعلامي المتميز والفريد، كانت وما تزال الأثـر البالغ في صناعة القرار والسياسات الداخلية/الخارجية للدول، وإغلاق مكاتبها وقتل صحافييها، لن يمنح العاجزين عن إسكات صوتها سوى الفشل الذي منيت به من قبل الديكتاتوريات على اختلاف ألسنتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.