في يناير/ كانون الثاني الماضي، وقع وزراء دفاع كل من تركيا ورومانيا وبلغاريا معاهدة ثلاثية تهدف إلى حماية ممرات الشحن في البحر الأسود وتطهيرها من الألغام التي زرعها الأسطول الروسي تزامنا مع بدء الحرب على أوكرانيا.
بموجب هذه الاتفاقية تم تشكيل فريق عمل من الدول الثلاث يتكون من ثلاث سفن لمكافحة الألغام -واحدة من كل دولة- بالإضافة إلى سفينة للقيادة والسيطرة.
وكانت تركيا دأبت على التأكيد أنها لن تسمح للسفن الحربية للدول غير المطلة على البحر الأسود، بالإبحار عبر المضائق التركية، وبموجب هذا الإعلان، رفضت أنقرة السماح لإحدى سفن كاسحات الألغام البريطانية المعارة إلى أوكرانيا بالدخول إلى مسارات البحر الأسود، باعتبارها سفينة حربية بريطانية.
لا ترغب تركيا أن تزيد من صعوبة موقفها بسبب الحرب الحالية في أوكرانيا، خاصة وأن كلا من أوكرانيا وروسيا شريكان رئيسيان لها في اتفاقات الطاقة والتجارة.
وأود هنا أن أذكر القارئ بتصريحات قائد البحرية التركية تاتلي أوغلو العام الماضي، بمناسبة إحياء الذكرى 133 لتأسيس مدارس الضباط البحرية، والتي قال فيها بوضوح إن بلاده تعارض مشاركة أي دولة من دول الناتو في حفظ الأمن بالبحر الأسود.
وقد برزت قضية أمن البحر الأسود، لتمثل اختبارا حقيقيا لمدى قدرة تركيا على ضبط التوازن الجيوسياسي في تلك الممرات الإستراتيجية، في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية.
فمن ناحية، لا ترغب تركيا أن تزيد من صعوبة موقفها بسبب الحرب الحالية في أوكرانيا، خاصة وأن كلا من أوكرانيا وروسيا شريكان رئيسيان لها في اتفاقات الطاقة والتجارة.
كما أنها في ذات الوقت، وباعتبارها عضوا أساسيا في حلف الناتو (منذ عام 1952) تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع الغرب دون إغضاب روسيا.
ومن هنا كان لها أن تتحرك في مساحتها بما لا يخل بعصا التوازن الضرورية في هذه المنطقة الحساسة من العالم، وفي ظل هذه الظروف بالغة الحساسية والصعوبة التي يمر بها الإقليم.
لماذا ترفض تركيا فتح الباب لحلف الناتو كي يتواجد بالبحر الأسود على الرغم من كونها تمثل قوة بحرية رئيسية في أي تحرك له بالإقليم؟
لا تدويل ولا بلقنة
وإذا كان الوضع كذلك، فالسؤال الذي قد يفكر فيه البعض، لماذا ترفض تركيا الجهود الدولية المعروضة للمشاركة في نزع الألغام من البحر الأسود؟
يري السيد هوتاكا ناكامورا -الباحث والمنتسب السابق لبرنامج البحر الأسود في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، أن أنقرة مصممة على الحفاظ على دورها كوسيط في الحرب الروسية الأوكرانية، وترفض التخلي عن علاقاتها مع موسكو أو تهميش فلاديمير بوتين.
كما أنه وبعد التدمير الهائل الذي لحق بالأسطول البحري الروسي، فإن أنقرة ترى أن الوجود المتزايد لحلف الناتو في البحر الأسود يمكن أن يخل بالتوازن الإقليمي الذي هو في صالح الأسطول التركي حاليا مقارنة بأساطيل روسيا والناتو وأوكرانيا في البحر الأسود.
هل توجد إذن مصلحة تركية في السماح لفرقة عمل متعددة الجنسيات لإزالة الألغام من البحر الأسود؟
يكمل السيد ناكامورا قائلا، "يمكن للمجموعة الدولية لكاسحات الألغام في البحر الأسود المتعددة الجنسيات والمدعومة من الناتو أن تعزز مكانة تركيا الجيوسياسية بين القوات البحرية في البحر الأسود، بما يكرس مكانة البحرية التركية كونها الأقوى، الأمر الذي يزيد من نفوذها وريادتها كمساهم رئيسي في أعمال تطهير الألغام وحفظ الأمن بالبحر الأسود.
إذن، وفي ضوء ما سبق ذكره، لماذا ترفض تركيا فتح الباب لحلف الناتو كي يتواجد بالبحر الأسود على الرغم من كونها تمثل قوة بحرية رئيسية في أي تحرك له بالإقليم؟
يعتقد صانعو السياسة التركية أن المواقف الأميركية جاءت كرد فعل لمواقف حزب العدالة والتنمية وتبنيه لسياسات خارجية مستقلة عن الشريك الأميركي وهي السياسات التي تتماهى مع الفكر والرؤية الإستراتيجية الجديدة للحزب وتوجهاته الجيوسياسية.
أزمة ثقة
وصحيح أنه يمكننا الإجابة على هذا السؤال عبر استرجاع تصريحات قائد الأسطول البحري التركي مرة أخرى التي أكد فيها أن بلاده لا ترغب أن يتحول البحر الأسود الى شرق أوسط آخر، إلا أنه في واقع الأمر فإن هذه التصريحات تعكس أزمة ثقة عميقة بين تركيا وحلفائها في الناتو وبالأخص الولايات المتحدة.
تصاعدت أزمة الثقة هذه بين البلدين خلال العقد الماضي بسبب سلوك الولايات المتحدة المعادي تجاه تركيا وتبني أميركا لأجندة سياسية لا تراعي مصالح تركيا الإستراتيجية كما هو الحال في المسألة السورية والتعامل مع حزب العمال الكردستاني والمجموعات التابعة له أو قرار أميركا تعليق حظر الأسلحة الذي كانت تفرضه سابقاُ على قبرص اليونانية.
هذه المواقف فسرها الساسة الأتراك على أنها تتجاوز كافة مؤسسات صنع السياسة الأميركية سواء داخل الكونغرس أو الرئاسة، وبغض النظر عن كون الإدارة ديمقراطية كانت أم جمهورية.
كما يعتقد صانعو السياسة التركية أن هذه المواقف الأميركية جاءت كرد فعل لمواقف حزب العدالة والتنمية وتبنيه لسياسات خارجية مستقلة عن الشريك الأميركي وهي السياسات التي تتماهى مع الفكر والرؤية الإستراتيجية الجديدة للحزب وتوجهاته الجيوسياسية.
سياسة مستقلة
ففي تقرير نشرته مؤسسة سيتا بعنوان "أولويات السياسة الخارجية التركية بعد الانتخابات الرئاسية- مرحلة جديدة" جاء فيه، أن تركيا تبنت سياسات خارجية مستقلة في الآونة الأخيرة لم يكن الدافع وراءها مجرد رغبة سياسية طارئة بل فرضتها اعتبارات الضرورة والمعطيات الإقليمية المحددة لتلك المواقف.
تمثلت تلك المعطيات في إحساس تركيا المتزايد أن أولويات أمنها القومي ومصالحها الحيوية يتم تجاهلها في كثير من الأحيان بل وصل الأمر إلى حد استهدافها من قبل الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين بالناتو.
في ضوء استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد القطاع المحاصر، وما ينتج عنها من فظاعات ومآس إنسانية واضحة، لا يبدو أن ثمة حلحلة للمواقف المتباينة تلوح في الأفق.
مسائل خلافية
وفي تقرير آخر يتناول السياسة الخارجية التركية نشره معهد سيتا تحت عنوان "خريطة تركيا الجيوسياسية لعام 2024 – السعي الى تحقيق الاستقرار في عالم تسوده النزاعات " كتبت الباحثة غلوريا أوزديمير أن عام 2023 شهد استمرار الاحتكاكات بين الولايات المتحدة وتركيا في منطقة شرق البحر المتوسط وبالأخص مسألة رسوّ قطع من البحرية الأميركية قرب موانئ قبرص التركية، ونذكر منها الغواصة يو إس إس سان خوان والمدمرة يو إس إس أرلي بيرك.
هذا بالإضافة الى ما ذكرناه عن رفع حظر الأسلحة وهي المسائل التي تعتبرها تركيا انحيازا أميركياً من شأنه تقويض الاستقرار وقطع الطريق على التوصل إلى حل عادل ومستدام للأزمة في قبرص.
وأخيراَ، فإن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والموقف الأميركي الداعم غير المشروط للكيان الصهيوني، أدى إلى مزيد من التوتر في علاقات البلدين لأنه يتناقض كلياً مع الموقف التركي الداعم للحق الفلسطيني.
وفي ضوء استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد القطاع المحاصر، وما ينتج عنها من فظاعات ومآس إنسانية واضحة، لا يبدو أن ثمة حلحلة للمواقف المتباينة تلوح في الأفق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.