الزهد في اللغة هو ترك الميل إلى الشيء، وهو أصل يدل على قلة الشيء، يقال زهد فلان في الدنيا أي استقلها وتركها.
ارتبط مفهوم الزهد لدينا دوما بالفقر، أي إذا أردت أن تكون زاهدا فلا بد أن تكون معتزلا للناس، صائما للدهر ومرقع الثياب، وجل هذه الأمور مرتبطة بالفقر.
كما أن الفقير ارتبط دوما بمكارم الأخلاق، والصفات المتعارف عليها لدى الفقير هي التعفف والتمنع، ودوما ما يكون صابرا ويحظى بحب الناس، وغالبا ما يتصف بالشهامة.
وعلى النقيض تماما ارتبط الشخص الغني في مجتمعاتنا بالتكبر والتجبر وعدم الإحساس بالغير، وحتى الكسب الحرام، وغيرها من ممارسات ذميمة وصفات معيبة.
الإسلام اهتم بالمال اهتماما كبيرا؛ بوصفه عصب الحياة، وقوام المجتمع، بما يجعل المال أداة إيجابية في خدمة البشرية دون غلو أو طغيان.
وهكذا مضينا في الحياة وتشكلت أذهاننا، معتقدين أن الزهد صفة الصالحين والمال مفسد للنفوس، والقناعة كنز الفقراء والطمع علة الأغنياء.
كما أن الله يحب الفقراء، فعن عمر بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن الله يحب عبده المؤمن الفقير المتعفف أبا العيال".
لكن الإسلام اهتم بالمال اهتماما كبيرا؛ بوصفه عصب الحياة، وقوام المجتمع، بما يجعل المال أداة إيجابية في خدمة البشرية دون غلو أو طغيان.
ولقد جعل الله المال زينة الحياة الدنيا حيث قال سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]، وندد القرآن بمن يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم من طيبات هذه الدنيا قال جل وعلا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
من هذه الآيات القرآنية وغيرها يتبين لنا أن الإسلام لم يقف حائلً بين أتباعه وبين امتلاك المال؛ طالما أن هذا المال جمع من حلال، والقصد من جمعه هو الاستعانة به على طاعة الله والتصدي لنوائب الدهر وشدائد الأيام.
وعند ذكرنا للفقر والمال، لا يمكننا غض النظر عن دعاء النبي: اللهم إني أسألك الهدى، والتقى والعفاف والغنى.
وأيضا: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر.
أيتعوذ النبي الكريم من الكفر! وألصق به الفقر!، الفقر الذي ألصق لدينا بالزهد؟ ولماذا يستعيذ النبي من الفقر وقد ألصقه بشخصه الكريم، وهل كان النبي محمد فقيرا فعلا؟
إذ شاع على ألسنة الناس أن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ولد فقيرا معدما، وأن المرضعات من بني سعد رفضن أن يأخذنه أولا ليتمه وفقره، وأن حليمة السعدية ما أخذته إلا بعد أن أيست من الحصول على طفل ترضعه، فأخذته على مضض، وهذا انتشر في بعض كتب السيرة قديما وحديثا، إلا أنه ضرب من خيال القصاص والرواة، لأن عبد المطلب جده كان معروفا بثرائه عند بني سعد، وكان يرسل كل طفل من أبنائه إليهم، وبعضهم كان موجودا وقت ولادة رسول الله مثل حمزة بن عبدالمطلب والعباس رضي الله عنهما، والرواية الصحيحة تقول: إنه هو الذي التمس له المراضع، ففي رواية ابن إسحاق: "فَلَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْسَلَتْ إلَى جَدِّهِ عَبْدِالْمُطّلِبِ أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَك غُلَامٌ فَأْتِهِ فَانْظُرْ إلَيْهِ، فَأَتَاهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ.. أَخَذَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ يَدْعُو اللهَ وَيَشْكُرُ لَهُ مَا أَعْطَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى أُمِّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهَا، وَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّضَعَاءَ.
الفقر ليس عيبا، ولكن تمجيد الفقر فكر متجذر ومتأصل في ثقافتنا العربية، وهذا التمجيد ما هو سوى محاولة للتزلف للفقراء دون أن يسألوا أنفسهم من الذي جعلهم فقراء، واتخاذه مسكنا يثبط العزائم قهرا.
كما أنه صلى الله عليه وسلم ورث عن أبيه خادمة وخمسة جمال، ومجموعة من الغنم، ونصيب والده في التجارة، فكيف إذا يكون فقيرا؟ وكونه يتيما لا يجعل النسوة تعرض عنه؛ لأنه معروف أن الطفل اليتيم يلقى من أهله من العناية ما لا يلقاه غيره.
وقد قال القاضي أبو يعلى الفراء وهو يعدد ممتلكاته صلى الله عليه وسلم: ذكر الواقدي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ورث من أبيه عبد الله أم أيمن الحبشية، واسمها بركة وخمسة أجمال، وقطعة من غنم، ومولاه شقران وابنه صالحا، وقد شهد بدرا، وورث من أمه آمنة بنت وهب دارها التي ولد فيها بمكة، وورث من زوجته خديجة بنت خويلد دارها بمكة بين الصفا والمروة خلف سوق العطارين، وأموالا.
فكيف يقال عن طفل رضيع يمتلك تلك الأموال أنه فقير، ومعلوم أن من كان يمتلك خمسة جمال يعد غنيا وتؤخذ منه زكاة المال؛ (إذ نصاب الإبل خمسة)، فضلا عن الموالي الثلاثة (بركة وشقران وصالح)، ودار أمه وقطعة الغنم.
فلماذا نسب الفقر للنبي محمد؟ ولماذا دوما يبرر الفقر للناس؟ في حين أن هذا يتعارض مع رسالة الإسلام تماما التي حثت على الغنى، وحثت على السعي في طلب الرزق، وحثت على جمع المال من الحلال، فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للعبد الصالح".
وكيف يكون فقيرا وهو الذي اشترى أرض المسجد، وأقام بيته على جزء منها؟ كيف يكون فقيرا وهو أصغر من قاد قافلة تجارية في مكة عندما اصطحبه عمه أبو طالب في رحلة تجارة معه للشام؟
وقرن صلى الله عليه وسلم الفقر بالكفر؛ لأن الفقير قد يضجر فينقم على قضاء الله وتضعف ثقته به، ويحول الفقر بين الإنسان وبين قيامه بواجبه تجاه ربه والناس، كما أن الفقر يجلب الهوان والمذلة لصاحبه.
الغني المسلم الصالح من فوائده على المجتمع أنه ينفق على محتاجيه كاليتامى والأرامل والفقراء، ويساعد طلاب العلم والقائمين على أمور الدين
الفقر ليس عيبا، ولكن تمجيد الفقر فكر متجذر ومتأصل في ثقافتنا العربية، وهذا التمجيد ما هو سوى محاولة للتزلف للفقراء دون أن يسألوا أنفسهم من الذي جعلهم فقراء، واتخاذه مسكنا يثبط العزائم قهرا.
(لوكان الفقر رجلا لقتلته) عبارة سيدنا عمر الأشهر، سيدنا عمر (رضي الله عنه) على صدقه وزهده صاغ هذه العبارة التي تجسد مدى مقته للفقر للحد الذي يستوجب القتل وهو يعلم أنه حالة حياتية بحاجة إلى مقاومتها.
إذا فإن الغنى ليس شرا في ذاته، وإنما يذم أو يمدح الغنى بحسب ما يجر إليه، فمن كان مؤمنا ينفق ماله في أبواب الخير فإن الغنى يكون خيرا له، ومن أغنياء الصحابة الذين لم يحملهم غناهم على البطر والترف والكبر، عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم.
والغني المسلم الصالح من فوائده على المجتمع أنه ينفق على محتاجيه كاليتامى والأرامل والفقراء، ويساعد طلاب العلم والقائمين على أمور الدين. كما عمل أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف في تجهيز الغزاة في غزوة تبوك.
وروى ابن ماجه، وصححه الألباني، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفَعني مالٌ قطُّ، ما نفَعني مالُ أبي بكرٍ))، فبكى أَبو بكر وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟
وبالنظر في كتب التاريخ والتراجم نجد عددا من الصحابة فاقت ثرواتهم حدود التصور ومع ذلك بشرهم النبي بالجنة، إذا ليس بالضرورة أن يكون الغني هو ذلك الفاحش الغليظ الطامع في الدنيا.
وبالنظر في كتب التاريخ والتراجم نجد عددا من أثرياء الصحابة ومنهم من بشر بالجنة. فثروة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتقدرـ «بثلاثين مليون درهم فضة، ومائة وخمسين ألف دينار، وقد بشر بالجنة في عدة وقائع بذل فيها ماله بسخاء، كما ظفر بتجهيز جيش العسرة «جيش تبوك» حين قال ــ عليه الصلاة والسلام: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزه رضي الله عنه وخبر حفره للبئر وتجهيزه للجيش في صحيح البخاري، وغيره.
وأما طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فتقدر ثروته بـ «مليوني درهم، ومائتي ألف درهم، ومن الذهب مائتي ألف دينار» وكان دخله اليومي ألف درهم وزيادة. وكان من سخائه أنه سأله رجل أن يعطيه بما بينه وبينه من الرحم، فأعطاه أرضا قيمتها ثلاثمائة ألف درهم، وقيل أكثر من ذلك. وكان لا يدع أحدا من بني قرابته القريبة والبعيدة إلا كفاه حاجته وقضى دينه
وأما الزبير بن العوام رضي الله عنه فقد بلغت ثروته من قيمة العقار الذي ورثه «خمسين مليونا ومائتي ألف»، حيث جاء في صحيح البخاري أن الزبير رضي الله عنه «قتل ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين منها الغابة (وكان الزبير اشتراها بسبعين ومائة ألف، فباعها ابنه عبد الله بعد وفاته بألف ألف وستمائة ألف، أي باعها بمليون وستمائة ألف)، وإحدى عشرة دارا في المدينة، ودارين في البصرة، وداراً في الكوفة، وداراً في مصر.
حصد هؤلاء الصحابة الكرام على تلك الأموال الطائلة مع تواضع منابع الثروة في ذلك الوقت، ومع هذا لم تتسلل الثروة إلى قلوبهم، بل كانت في أيديهم، فملكوا الدنيا بقلوب زاهدة وأقاموا بها توازنا دقيقا بين الحياة الدنيا والأخرة
وأما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فهو أغنى صحابي في عهد الرسول، وتقدر ثروته بـ «ثلاثة ملايين ومائتي ألف دينار»، وقد كان رضي الله عنه عصاميا، فقد ابتدأ ثروته من الصفر بل إنه عرض عليه سعد بن الربيع الخزرجي رضي الله عنه أن يشاطره في نصف ماله مجانا -وذلك حين آخى النبي- صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد فرفض عبد الرحمن بن عوف هذا العرض المجاني، وقال: «بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق, فكان الاستثمار في السوق بالبيع والشراء هو الأسلوب الاستثماري لعبد الرحمن رضي الله عنه حتى أصبحت ثرواته على مرأى ومسمع من أهل المدينة.
من أوجه الصدقة التي بذلها عبد الرحمن بن عوف، أنه باع أرضا بأربعين ألف دينار، فتصدق بها. وأوصى لمن شهد بدرا بأن يعطى كل واحد منهم أربعمائة دينار فوجدوا مائة رجل بدري، أي أوصى لهم بأربعين ألف دينار. وأوصى بألف فرس في سبيل الله، وأوصى لأمهات المؤمنين بحديقة، فقومت بمائة ألف.
وأما سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فتقدر ثروته بـ «مائتي ألف وخمسين ألف درهم»، ومما يدل على ثروته ــ رضي الله عنه أنه جاء في الصحيحين أنه قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.
"حصد هؤلاء الصحابة الكرام على تلك الأموال الطائلة مع تواضع منابع الثروة في ذلك الوقت، ومع هذا لم تتسلل الثروة إلى قلوبهم، بل كانت في أيديهم، فملكوا الدنيا بقلوب زاهدة وأقاموا بها توازنا دقيقا بين الحياة الدنيا والأخرة"، " فليس الزهد ألا تملك شيئا، بل الزهد ألا يملكك شيء".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.