شعار قسم مدونات

عن مرمى حديثك الذي لا تراه!

بعض الكُتاب أحيانا يحصل لديه خلط بين الكتابة الذاتية والكتابة العابرة (شترستوك)

ربما تكون الكتابة من أهم ما يمكن أن يمارسه الإنسان ليمترسه، فالكتابة ليست جمعا للحروف والكلمات قدر ما هي محاولة للتعبير عن صورة أو معنى في عقل الكاتب، وتلك الصورة أو ذلك المعنى ليسا بالضرورة معلومات فحسب بل ربما تكون إداركا أو شعورا يحاول إيصاله لقارئه، هذا إن كانت كتابته مقصودة لغيره؛ فبعض الكُتاب أحيانا يحصل لديه خلط بين الكتابة الذاتية والكتابة العابرة.

لمشكلة في النصوص التي تكتب في الحالات الإيمانية أو العاطفية العالية -شديدة الذاتية- أنها تعبر عن قمة ما في حياة الكاتب، شعر بها في لحظة معينة مع نفسه أو مع زوجه و أولاده.. الخ. وذلك التعبير عن تلك القمة حصل باستعمال ألفاظ عمومية مطلقة تهلك من تنوي إلهامهم دون قصد

الكتابة الذاتية هنا هي نوع من التعبير عن النفس للنفس، يفترض أنه لا يتجاوزها فإن فعل فالتجاوز للدائرة الضيقة القريبة من الذات، والتي تفهم -بطبيعة الحال- هموم الذات الكاتبة. أما العابرة فهي الكتابة التي يقصد منها الغير، فهي من النفس إلى غيرها من النفوس، لذلك وجب عليها أن تلتزم مجالا تداوليا مشتركا.

أحد آثار ذلك التماهي بين العابر والذاتي -والذي دعمته ثقافة النشر المستمر على وسائل التواصل- ألا يفرق الكاتب بين النص نفسه وبين ما يمكن أن يولده لدى القارئ، فربما يكتب أحدنا نصا في حالة إيمانية أو عاطفية ما، فيراه حسنا ويقرر بعد التدقيق نشره، فتأتيه الإعجابات والتعليقات متفاعلة مع المعنى الذي أتى به، فيتقرر عنده أنه حسن لقبول الناس له.

لكن المشكلة في النصوص التي تكتب في الحالات الإيمانية أو العاطفية العالية -شديدة الذاتية- أنها تعبر عن قمة ما في حياة الكاتب، شعر بها في لحظة معينة مع نفسه أو مع زوجه و أولاده.. الخ. وذلك التعبير عن تلك القمة حصل باستعمال ألفاظ عمومية مطلقة تهلك من تنوي إلهامهم دون قصد، لأن النصوص تلك تخرج بصيغة جازمة توحي بعموم الحالة واستمرارها، فيستقر في عقل القارئ أنها الأصل، فإذا خالفت حياته ذلك الأصل كان ذلك سببا في شقائه شقاء لا داعي له، إذ الحياة ذات قمم وقيعان.

لما يصلي الإنسان ليله فيقرأ آية تتجلى في قلبه فيكتب على وسائل التواصل: من لم يفهم هذه الآية لم يفهم الإسلام. لما يجد الشخص شريكا لحياته صغيرا فيكتب: لا حياة لمن لم يتزوج صغيرا. لما يجد المرء من صديقه حفزا على الخير فيكتب: لا تصادق من في قلبه هم الدنيا.

هون عليك -عزيزي القارئ- تلك المطلقات، فلكل مطلق تقييد، ولكل عام تخصيص، وليس كل نص يقصدك ليغير وجهة حياتك، والله هو من يوفق ويعين ويتقبل.

الكاتب في تلك الحالات يريد التعبير عن سعادته بحال أو حزنه من حال، لكنه لا يدرك أن كل هذا تجارب شخصية، خاضها هو وقد يخوض غيره غيرها، قد لا ينفع البعض الزواج صغيرا وقد لا يفهم فلان تلك الآية ويكون أعلى منه مرتبة، وقد لا يكون للرجل صديق جالس في زاوية لا يعبأ بالدنيا ولا تعبأ به، لكن لديه صديقا يعينه على المضي في هذه الحياة الصعبة.

ربما كررت سابقا كرهي لفكرة التركيز على فكرة "عدم التعميم" نحو أية فكرة لما فيها من إنكار لطريقة عمل العقل البشري، لكن الكلام هنا ليس موجها للكاتب بقدر ما هو موجه للقارئ الذي ينبغي عليه أن يبدأ بالتفريق بين النصوص الذاتية والعابرة. وأن يستحضر أن الكاتب السعيد ليس سعيدا دوما فالحزن عنده ضيف دائم كما البشر، والزوجة العابدة الزاهدة ليست عابدة زاهدة دوما فللدنيا في قلبها مكان كما أكابر الصالحين، والقارئ الذي أنهى اليوم عشرة مجلدات مرت عليه أسابيع لم يمسك فيها الورق، فكلنا بشر نسعى لتحسين أنفسنا كل يوم، وقمم الآخرين لا تعنيك إلا استئناسا.

فهون عليك -عزيزي القارئ- تلك المطلقات، فلكل مطلق تقييد، ولكل عام تخصيص، وليس كل نص يقصدك ليغير وجهة حياتك، والله هو من يوفق ويعين ويتقبل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان