منذ السابع من أكتوبر أو بعده بأيام، تكرر الحديث عن فيتنام ووجه الشبه بينه وبين ما دار فيها من صراع في نهاية ستينات القرن الماضي.
ومع أنني أعرف ما يكفي من معلومات عن فيتنام أكثرها مرتبط بمهنة الصحافة، وكيف أن المهنة التي امتهنتها تستطيع الإطاحة برئيس أميركي إذا قامت بدورها في الاستقصاء والبحث -وذلك ما حدث لرئيس أميركي حاول إخفاء ما يحدث في فيتنام وخصوصا معاناة الأميركان وحلفائهم في مواجهة الثورة الفيتنامية- وغير ذلك من كلمات متقاطعة تحثنا على الاستقصاء وأن نحب مهنتنا كصحفيين ونثق في تأثيرنا.
ولكن من يومها وعلى مدى ثلاثين عاما من المهنة، لم أستطع أن أطيح بحاكم واحد بالطريقة التي جرت في فيتنام، مع أنني شهدت الإطاحة بعدد من الحكام في مصر وتونس وليبيا ثم في وقت لاحق في السودان، فيما فشلت محاولة أخرى في سوريا.
وفي كل تلك الأحداث لم يكن هناك تحقيق استقصائي واحد يمكن أن نرجع إليه الفضل في الإطاحة بهؤلاء الحكام، أو حتى إثارة وتحريك الثورة ضده، بل رأيت كيف أن الأقلام والأصوات التي رافقت هذه الثورات تكسرت وتقلبت إما على جمر الثورات المرتدة أو الانقلابات، وفي أحيان أخرى غيرت أنواع الحبر الذي تستخدمه طوعا أو كرها لتستطيع الاستمرار في الكتابة، بينما يستمر الأقوياء في تنفيذ ما يشاؤون من تغييرات دون الحاجة لقراءة ما نكتب ويكتب غيرنا من كبار الصحفيين والمعلقين والمحللين الذين يتعاطى الضعفاء ما يكتبون، فتدور رؤوسهم، ويظنون أن مقالا واحدا قادما أو حتى تعليقا على منصة اجتماعية سيحدث التغيير.
ليس هذا موضوعنا، بل هو فيتنام، وخصوصا أوجه الشبه مع غزة، وتحديدا عن السابع من أكتوبر. فقد وجدت عبر صفحات التاريخ الفيتنامي ما يشبهه، ونحن إنما نذهب للتاريخ باعتباره دليلا لنا للمستقبل وليس قصصا مضت وانتهت وذهب معها بريق من عايشوها ولهيب معاركها ومعاناة من خاضوها.
المسرحية عرضت في أكثر من 300 مدينة حول العالم بنحو 15 لغة مختلفة، في حين بقي أبطال المسرحية الأوائل يقدمونها يوميا منذ بداية العرض لأكثر من ربع قرن
فتلك مساحة يبدع فيها الأدباء أكثر من غيرهم، وقد شهدت إبداعهم في أحد مسارح لندن العريقة عندما شاهدت مسرحية اسمها "مس سايجون" قبل نحو ثلاثين عاما، دعاني إليها زميلي العزيز أحمد مصطفى – حفظه الله – كنت مراسلا حينها للإذاعة في غزة، وكان هو معدا ومقدما لبرنامج الاقتصاد في إذاعة لندن "البي بي سي" وكان يحرص على تضمين نشرته خبرا أو فقرة صغيرة عن الاقتصاد الفلسطيني في أوج فترة عملية أوسلو وتأسيس السلطة، وفي زمن الترويج الخادع بأن حياة الفلسطينيين ستصبح كسنغافورة التي كانت نموذجا في التقدم ضمن مجموعة النمور الآسيوية.
بدأت "مس سايغون" أولى عروضها في لندن عام ١٩٨٩ وبقيت تعرض لنحو ربع قرن. ثم انتقلت إلى أحد مسارح شارع الفن والمسارح المعروف باسم برودواي في مدينة نيويورك بأميركا، حيث لا تزال تعرض هناك إلى يومنا هذا.
تعتبر المسرحية من أنجح المسرحيات الغنائية على الإطلاق، وهي تحكي قصة حب وقعت أثناء حرب فيتنام بين فتاة فيتنامية فقيرة تدعى كيم وجندي أميركي اسمه كريس، ثم تحطمت قصة الحب مع سقوط سايغون بيد الفيتناميين الشماليين.
قدمت المسرحية بطريقة رائعة، وتميزت بنوعية المؤثرات الصوتية والبصرية القوية مثل هبوط طائرة هليكوبتر على خشبة المسرح. ويقال إن المسرحية عرضت في أكثر من 300 مدينة حول العالم بنحو 15 لغة مختلفة، في حين بقي أبطال المسرحية الأوائل يقدمونها يوميا منذ بداية العرض لأكثر من ربع قرن، وربما ما زال بعضهم يقدم العروض حتى الآن. ومن المفيد الإشارة إلى أن الفريق المنتج للمسرحية هو نفس الفريق الذي سبق وأنتج مسرحية "البؤساء" الناجحة في عام ١٩٨٥.
المهم أن فيها قصة شهيرة لم أكن في حينه، وأنا القادم من بساطة غزة وقصتها الخاصة التي لا تشبه القصص، على معرفة بخلفيات تلك القصة أو المسرحية وارتباطها بذلك التاريخ الفيتنامي، كما لم أكن على احتكاك بالمسرح والإبهار الفني الذي يقدمه الإنجليز على المسارح. ومع محاولات التذكر الآن، لم يبق لدي سوى بضع مشاهد من تلك المسرحية.
لكن أكثر ما بقي عالقا في ذاكرتي هو ذاك الإبداع الفني وتجسيد المعاناة الإنسانية المترتبة على الصراعات والحروب، وكيف يحرك ذلك الإنسان ويهزه من الأعماق في لحظات معينة تتراكم فيها الصور والكلمات مع المؤثرات الدرامية، فيكاد المشاهد أن يحمل كرسيه ويطير مع طائرة الهليكوبتر الأميركية التي جاءت لإخلاء ذلك العسكري الأميركي هربا من جحيم فيتنام، تاركا خلفه عشقا فيتناميا أثمر طفلا.
وتطول الحكاية وتصل إلى نهايتها عندما تموت كيم بين ذراعي كريس بعد رحلة طويلة من البحث عنه. ومع إسدال الستارة، تنهمر دموع المشاهدين وهم يغادرون المسرح الكبير في أزقة لندن القريبة من محطة تشيرنغ كروس، حيث علي أن أستقل قطار الأنفاق نحو مقر اقامتي المؤقت، حاملا معي شيئا واحدا، وهو الشعور بأنني مررت بتجربة فريدة من نوعها ربما لن تتكرر، وهو ما حصل بالفعل مع قصة غزة وتغطية أخبارها المتلاحقة التي لم تمنحني رفاهية الزمان ولا المكان مرة أخرى.
كان ذلك الانتقام رهيبا لأن الأميركي "العظيم" شعر بالعار لأن حفنة من المقاتلين الفقراء وذوي الإمكانات البسيطة مرغوا أنف أميركا في التراب وأذاقوها وحلفاءها الويل والثبور. وذاك وجه آخر من أوجه الشبه بين فيتنام وغزة.
وعلى كل حال، دعونا نعود إلى فيتنام وإلى ليلة "التيت" بالذات، لأنها الليلة التي تشبه السابع من أكتوبر. هذه الليلة التي نجح فيها الثوار بما لم ينجحوا فيه من قبل، فقد اجتاحوا خلالها مساحات كبيرة من الجزء الجنوبي حيث مقر الحكومة الفيتنامية المدعومة أميركيا، وقتلوا كثيرا من الجنود والضباط.
وكانت ليلة ليلاء على الأميركان، ما زالوا يذكرونها رغم أنها لم تنته بنصر حاسم للثوار الشماليين الفيتناميين، بل استجلبت غضبا أميركيا أقسى من غضب الاحتلال الإسرائيلي وداعميه ورعاته من الغربيين الأقوياء، وافتتحت مرحلة طويلة من القتل والتدمير لا يستطيع أحد أن يؤكد مداها، لكن الكل يجمع على أنها مقتلة عظيمة ربما وصل عدد القتلى من الفيتناميين الشماليين خلالها إلى أكثر من ثلاثة ملايين قتيل، وفي وقعة "التيت" وحدها قتل عشرات الآلاف من الشماليين في الهجوم المرتد من الجيش الجنوبي والأميركان.
والحق يقال، لقد كان ذلك الانتقام رهيبا لأن الأميركي "العظيم" شعر بالعار لأن حفنة من المقاتلين الفقراء وذوي الإمكانات البسيطة مرغوا أنف أميركا في التراب وأذاقوها وحلفاءها الويل والثبور. وذاك وجه آخر من أوجه الشبه بين فيتنام وغزة.
وعليه، يمكن القول إن هجوم حماس "طوفان الأقصى" وهجوم "التيت" يتشابهان في أربعة جوانب أساسية على الأقل.
- الأول: التخطيط الطويل فكلاهما استغرق سنوات.
- الثاني: السرية وعنصر المباغتة.
- الثالث: التوقيت فكلاهما اختار توقيتا مميزا، فـ "التيت" هو ليلة رأس السنة القمرية الفيتنامية نهاية كانون الثاني، أما السابع من أكتوبر فكان السبت وهو يوم عيد أسبوعي يهودي فضلا عن وجود احتفالية كبيرة في غلاف غزة لم يثبت أن مخططي العملية كانوا يستهدفونها، وإن كانت كثير من الاشتباكات وقعت عندها، ونالت كثيرين ممن كانوا فيها.
- الرابع: فكانت النتائج. حيث أسفر هجوم "التيت" عن مقتل عشرات الآلاف من المهاجمين الشماليين، واعتبرت تلك خسارة تكتيكية حيث كرس الحدث بداية هزيمة إستراتيجية تدحرجت سبع سنوات، حتى تحولت إلى انتصار كاسح للشماليين الذين دخلوا عاصمة الجنوب سايغون والتي أصبحت لاحقا عاصمة لكل فيتنام واسمها هوشي منه.
أما هجوم حماس فكانت نتائجه ما نراه من خسائر هائلة ودمار شامل لقطاع غزة وعشرات الآلاف من الضحايا والمجاعة وأشكال المعاناة، وكل ذلك مشابه لما حدث بعد هجوم "التيت"، ومع كل ذلك يرى المراقبون الاستراتيجيون أن كل هذه الخسائر هي تكتيكية في مقابل خسارة إستراتيجية نالها الاحتلال الإسرائيلي، وستؤدي إلى هزيمته مهما تدحرجت الأمور.
الفكرة الأخيرة هذه هي تحديدا ما نريد أن نستخلصه، وأن نرى أنه أهم من التفاصيل مهما بلغت، فنحن لم نتخيل يوم السابع من أكتوبر، أكثر من سبعة أشهر طويلة ستمر على غزة بكل هذا القتل والمجازر وأصناف المعاناة التي لا يمكن إحصاؤها، والتي اقتربت من كل فلسطيني مهما كان بعيدا عن غزة، ومسته وما زالت.
كان الغضب المتزايد إزاء الحرب سببا في تحفيز حركة مناهضة للحرب، تمركزت بشكل خاص في الجامعات في الولايات المتحدة وخارجها، وواجه جونسون المزيد من المشاكل وانخفض الدعم الشعبي له مع استمرار الحرب وتزايد الاضطرابات الداخلية في جميع أنحاء البلاد
"التيت" وطوفان الأقصى والجامعات
عاد الحديث مرة أخرى عن أوجه الشبه مع ارتفاع موجة الاحتجاجات والاعتصامات في الجامعات الغربية، والتي بدأت في أميركا وانتقلت بسرعة لأوروبا وأنحاء أخرى. وبدأ المؤرخون يذكروننا بأن ذلك ما حدث بعد "التيت" في فيتنام، وذاك ما أثار الرأي العام ضد الحكومات، وذاك ما أجبر رئيسا أميركيا هو لندول جونسون على عدم الترشح لولاية ثانية، كما خسر خلفه الديمقراطي تلك الانتخابات أمام منافسه الجمهوري.
لندول جونسون هذا يرتبط بشكل وثيق بالتيت كما يرتبط اسم جو بايدن بالحرب الإسرائيلية على غزة، فكلاهما دعم الحرب بشكل رهيب. حيث هيمنت حينها الحرب الباردة وحرب فيتنام على رئاسة جونسون واتبع سياسات تصالحية مع الاتحاد السوفيتي، مما مهد الطريق للانفراج في السبعينيات. ورغم ذلك فقد كان ملتزما بسياسة الاحتواء، وعمل على تصعيد الوجود الأميركي في فيتنام من أجل وقف انتشار الشيوعية في جنوب شرق آسيا أثناء الحرب الباردة، حيث ارتفع عدد الأفراد العسكريين الأميركيين في فيتنام من 16 ألف جندي في عام 1963 إلى أكثر من 500 ألف في عام 1968 وهو عام هجوم "التيت".
لقد كان الغضب المتزايد إزاء الحرب سببا في تحفيز حركة مناهضة للحرب، تمركزت بشكل خاص في الجامعات في الولايات المتحدة وخارجها، وواجه جونسون المزيد من المشاكل وانخفض الدعم الشعبي له مع استمرار الحرب وتزايد الاضطرابات الداخلية في جميع أنحاء البلاد، وفي الوقت نفسه تم حل "ائتلاف الصفقة الجديدة" الذي وحد الحزب الديمقراطي، وتآكلت معه قاعدة دعم جونسون.
وعلى الرغم من أنه كان مؤهلا لخوض الانتخابات لولاية أخرى، أعلن جونسون في مارس ١٩٦٨ أي بعد "التيت" بشهرين أنه لن يسعى لإعادة الترشح، وفاز خليفته المفضل، نائب الرئيس هيوبرت همفري بترشيح الحزب الديمقراطي، لكنه هزم بفارق ضئيل أمام نيكسون الجمهوري في الانتخابات الرئاسية عام ١٩٦٨.
وحتى اليوم لا يزال تعامل جونسون مع حرب فيتنام لا يحظى بشعبية على نطاق واسع بين الأميركيين. والشاهد هنا أن طلاب الجامعات وحراكهم من أجل سحب القوات الأميركية في فيتنام أثمر في نهاية المطاف وتحقق انتصار الفيتناميين الشماليين ودخلوا سايغون العاصمة الجنوبية في ١٩٧٥ وأصبحت عاصمة موحدة لفيتنام.
في غزة فلا يوجد قوات أميركية، وإن كان هناك من يقول بأن أعدادا محدودة منهم شاركوا فيها في بعض الأحيان، وهؤلاء على الأغلب من مزدوجي الجنسية أو من القوات ذات المهام الخاصة التي سعت لتحرير بعض الأسرى خصوصا من يحملون الجنسية الأميركية.
ويأمل المتابعون لحراك الجامعات في أميركا حاليا، من أجل وقف حرب الإبادة في غزة، أن يشكلوا ضغطا على الديمقراطي بايدن ليضغط بدوره على الاحتلال الإسرائيلي ويوقف الحرب. وهو أمر ممكن جدا بالنظر لتراجع شعبية بايدن والديمقراطيين في أوساط الجيل الجديد في أميركا، وهو أمر يثير مخاوفهم إلى حد بعيد وهم على أعتاب معركة انتخابية شرسة، يقف على طرفها الآخر جمهوري ليس أقل تأييدا لحرب الإبادة بل هو يزايد بقدراته الخارقة في تحقيق الأهداف التي فشل مع الاحتلال في تحقيقها حتى الآن.
ثمة فارق آخر بين فيتنام وغزة، وهو أن الأميركان دخلوا وقاتلوا بمئات الآلاف من أبنائهم في تلك الحرب وكانت الحكومة تخفي عن الشعب الأميركي ما يدور هناك، حتى بدأت التحقيقات الصحفية التي تلقفها الجمهور الأميركي بكل غضب وانتفض على الحكومة وطالب بوقف الحرب.
أما في غزة فلا يوجد قوات أميركية، وإن كان هناك من يقول بأن أعدادا محدودة منهم شاركوا فيها في بعض الأحيان، وهؤلاء على الأغلب من مزدوجي الجنسية أو من القوات ذات المهام الخاصة التي سعت لتحرير بعض الأسرى خصوصا من يحملون الجنسية الأميركية.
وفي هذه الحالة فإن قدرة الولايات المتحدة على وقف الحرب في حال أرادت ذلك فعلا ليست قوية، خصوصا وأن نتنياهو يظهر الخلاف مع الإدارة الأميركية ولا يستجيب لبعض طلباتها المعلنة، ويعمل مع الجمهوريين لإضعافها بل ربما يكون هو الأقدر على تغيير الإدارة الأميركية في الانتخابات القادمة ودعم صديقه الجمهوري ترامب، أملا في الخلاص من أي ضغوط أميركية، وليكون في مأمن من محاولات إدارة بايدن تغيير حكومته التي يتحكم بها المتطرفون.
بقي أن نقول إن مشتركا آخر يعرفه الجميع بين ليلة "التيت" وليلة الطوفان وهو أن كلتيهما اعتمدتا على أنفاق هجومية، حيث انطلق الشماليون من مدينة تعرف بمدينة الأنفاق كانت تسيطر عليها مليشيات من الثوار تعرف بالجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام المعروفة بـ "الفيت كونغ"، وقد انضمت إليها قوات من الجيش الشعبي الشمالي بتخطيط الجنرال جياب. وساعدت الأنفاق أصحاب الأرض ضد الغزاة الأميركان تماما كما ساعدت أنفاق غزة المقاومة الفلسطينية ضد الغزاة الإسرائيليين وحرمتهم من تحقيق الانتصار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.