كنت أعتقد أن الإنسان حين يعتاد الألم سيتعايش معه ولن يوجعه بنفس قدر وجعه الأول، لكن بما أنك في غزة فكل اعتقاداتك سوف تتغير، واعتقادي بأن خوفي من الصواريخ والقصف المسعور قد بات شيئا طبيعيا وتعودت عليه ولن أشعر بالذعر منه كما ذي قبل، هو اعتقاد خاطئ.
كان الوقت عصرا من يوم الأحد الثامن والعشرين من أول شهر بالسنة، عائلة ملتحمة حول بعضها لا شيء لها سوى أن تسمع الأخبار، هيأ لنا حينها أننا آمنون وبما أن من النادر أن تجد الأمان في هذهِ الحرب، ستذهب لتسرق هذه اللحظة الثمينة وتقضيها بممارسة الحياة الطبيعية التي يقينا قد نسيناها.
الصاروخ اللعين لم يكن موجها نحوي، وقد ذهب في طريق أناس آخرين، قد عاشوا نفس شعوري حين نزل، ولكن الفرق أنني ما زلت كاملة وعلى قيد الحياة، وهم رحلوا أشلاء مكرمين بالشهادة للجنة.
تكاثرنا جميعا أنا وإخوتي بسرعة بالمطبخ لنحضر الطعام الذي نريد منه أن يسد رمق جوعنا ونضعه قبل أن ترحل عنا لحظتنا الثمينة، وضعنا على شرشف المائدة طعامنا المتكرر يوميا "العدس" الذي بالكاد صرنا نجده هنا في شمال قطاع غزة بعد أن اشتد الحصار علينا من كل شيء، كما قال وزير حرب الاحتلال "سنعاملهم كالحيوانات؛ لا ماء، لا طعام، لا كهرباء، لا وقود، سنرجعهم خمسين سنة للوراء".
هه! هو بالفعل قد جعلنا نرجع أكثر من مئة سنة وليس خمسين فقط.
قطع لحظتنا الثمينة في عيش الحياة، صاروخ كان قريبا من أن يصم آذاننا من حدته، ومن هنا قد زال اعتقادي بأن خوفي من الصواريخ قد خف عن أول أيام الحرب. وكمن غاب عن وعيه، لم أجد نفسي سوى ملتفة حول أمي مغمضة عيني، أشعر بشدة نبضات قلبي المتسارعة بخوف، رافعة إصبع السبابة حتى أنطق بالشهادة، كالإنسان المعدم المغمض العينين ولا يعي بما يدور حوله، سوى أن الموت محيط به من كل اتجاه.
مرت الدقيقة بعد نزوله، وشهقت وعدت لوعيي أتحسس جسدي، نعم لا زلت كاملة، لم أقطع أشلاء، فتحت عيني كمن يبصر لأول مرة، مدركة أنني ما زلت حية، وأن الصاروخ اللعين لم يكن موجها نحوي، وقد ذهب في طريق أناس آخرين، قد عاشوا نفس شعوري حين نزل، ولكن الفرق أنني ما زلت كاملة وعلى قيد الحياة، وهم رحلوا أشلاء مكرمين بالشهادة للجنة.
يريدون منا أن نتمنى الموت والخلاص من هذا العذاب الذي من الممكن أن يكون الموت أرحم منه!
تساءلت بحرقة، عن ردة فعلي لرفعي إصبع السبابة حين سماعي لأي صاروخ ينزل، ولم أصبحت لا إراديا أرفعه حين سماعي أصوات القصف. هل هذا الفعل يعني أنني قد تقبلت فكرة الموت؟ أو هل أنا أعي تماما أنني قد أصبحت مريضة بالخوف من فكرة الموت متقطعة لأشلاء؟ هل هم هكذا قد أثبتوا أنهم قد تحكموا في حقنا في الحياة؟
يا الله.. هلوسة تدور في مخيلتي! كم هو عمري لكي أتساءل هكذا أسئلة، في حين أن الكثيرين ممن هم في سني في العشرينيات "سن الشباب اليافع" تدور أسئلتهم الطبيعية عن الشغف، والحب، والحياة، التي حقا قد جعلونا ننساها.
لا أعتقد أبدا أنهم فقط قد أرادوا تدمير بيوتنا ومدينتنا ومعالمها، وشوارعنا وذكرياتنا، بل هم يريدون تدميرنا من الداخل وتعذيبنا نفسيا بالأكثر. يريدون لنا أن نعيش يائسين، بائسين، مذعورين، خائفين مربكين، لا نجد الهناء، ولا نعرف معنى الراحة.
يريدون منا أن نتمنى الموت والخلاص من هذا العذاب الذي من الممكن أن يكون الموت أرحم منه!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.