شعار قسم مدونات

سأخبر الله بكل شيء!

مجزرة جديدة يرتكبها الاحتلاال بحق منتظري المساعدات عند دوار ‎#الكويت بمدينة غزة الصور من حساب انس الشريف على الانستجرام
يغتالون خلقك يارب.. غلبت سطوتهم فعاثوا وهتكوا (مواقع التواصل الاجتماعي)

افترش الأرض، ويمم القبلة، للمرة الأولى يشعر بأنه في خلوة تجاوزت حدود الزمان والمكان، لا يسمع سوى رجع أنفاسه، وارتباك وتيرة خافقه، تحسس مشاعره فوجدها متلهفة؛ إنه في الحضرة الإلهية المسكونة بالنور مثلما أخبره شيخه العارف. الكائنات من حوله قد توارت، فلم تعد الأرض تلامس أطرافه، إنما هي رحلة في عوالم خفية، بدأت العينان تسبحان في ملكوت عائم، عندها انطلق في الحديث بصوت واجم: سأخبرك يا الله بكل شيء.

في ركن قصي من غزة الدامية، يحمل رجل فلذة كبده بين كفيه، يشخص ببصره إلى السماء، القلب المنفطر يروي حديثا متعطشا مع "القدوس": إنهم يغتالون خلقك، غلبت سطوتهم فعاثوا وهتكوا، وقد كنت أسترعي الأماني الغوالي بأن يكبر هذا الطفل فيشملني بالعناية

آمن أن الاتصال بالله لا يكون في صورة دعاء فقط، بل يجب أن يكون حاضرا في كل شيء؛ هو الملاذ الآمن للشكوى، وللأمل، يرى بأن الحديث مع الذات الإلهية فيما يختلج بالنفس ويعتمل بالصدر ضرورة ملحة، ينسيه وجع الحياة، وتقلبات الزمان، إذ كان في أحد لياليه يقول: يا رب يظن الناس أن الطريق إليك محصور في صلاة وتسبيح ودعاء، وجهلوا أنك "الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل"، وأن الروح تتنفس بكلماتك، واللسان لا ينطق إلا بأمرك، ففي الحديث إليك سلوة للمحزون وأمان للمكلوم.

في ركن قصي من غزة الدامية، يحمل رجل فلذة كبده بين كفيه، يشخص ببصره إلى السماء، القلب المنفطر يروي حديثا متعطشا مع "القدوس": إنهم يغتالون خلقك، غلبت سطوتهم فعاثوا وهتكوا، وقد كنت أسترعي الأماني الغوالي بأن يكبر هذا الطفل فيشملني بالعناية، ومضيت معه في درب الحياة، أرقب نموه، وأهذب آماله، وأنقي مسالكه، فوقع في قلبي، وملك علي عواطفي، فأضحى الحياةَ في زمن سلب منا كل شيء. هذه الجثة الهامدة يا الله، كانت روح هذا المكان، وزهرة البيت، وعطر القلب، وتاج المستقبل، لقد اصطنعته على عيني ليصلح شأني، فأظلمت الدنيا عندما انطفأت عيناه، فأي خسران أكبر من أن تغتال روحي ويهدر داخلي ببكاء متفجر!

على قارعة طريق بإحدى العواصم الغربية، يجر طفل عربي ذكرياته الموحشة بخطى متثاقلة، وهو يهتف بصوت متقطع ملتاث: ربي العظيم، ها أنا ذا، لاجئ فار من الويلات، مددت اليوم يدي كثيرا للمارة، فارتدت كفي خائبة، ذنبي أنني أصبحت بلا حضن يأويني، ولا وطن نتوسد دفأه، كنّا بالأمس نغب من حنان الأرض، واليوم تلفظنا الأرض ومن عليها، يمر الناس بنا وما نحن في ناظريهم سوى عار وسبة، فهل العربي يا الله سوى لقمة ملفوظة وبضاعة مزجاة، وبعض الكبراء يتمرغون في أحضان الساسة الذين أقسموا ألا يتركوا شبرا عربيا إلا ومزقوه، أما نحن فالعيون تعاف النظر إلينا، وكأننا في أذهان الناس خطيئة جديرة بالازدراء.

يا بني لن تستطيع أن تكون خليل الله، فليكن الله خليلك، لا تقطع وصاله، حدثه في أمرك كثيرا، ليحضر معك في حالاتك الشعورية، في الفرح ولحظة الغم، عند الصحو وقبل المنام، ليكن رفيقك في أحلامك وطموحاتك، حدثه بما تشاء، حديث الواثق مرة، وحديث الواجل أخرى، لا تجعل القلب لسانك، فيجري الحديث في محيط مخيلتك لا يصل إلى شفتيك، بل اصدح بما يمتلأ به فؤادك، على أن تكون في ثوب نقي طاهر من دنس المعصية وأمارات الكبر وعوالق المادة، كن روحا تسبح وتتماهى في أسرار الله العظيمة، ستجد شيئا من عظمة الله في روحك، وستدرك حينها أنك لست وحدك في هذا العالم المائج بالبلوى؛ كانت كلمات المربي لتلميذه بوابة نجاة من الغمة التي أحاطت به من كل جانب.

كم في عالمنا العربي المحتاس؛ من مذبوح، مصلوب، مقهور، مكتوم الأنفاس، تعالت صرخاتهم فلا معين، وتقطعت بهم السبل فلم يؤوهم أحد، وقد فقدوا الأمل من بني جلدتهم وأتباع ملتهم، فالضمير الإنساني أزرى به الشلل

بعد رباط دام لساعات قبالة غرفة العمليات، أحنت أم رأسها، وقد ظن من حولها أنها تكلم نفسها، لكن دموعها الحرّى أبانت أنها لائذة إلى الله تبثه حزنها ونجواها: إنهم يا رب لا يستشعرون قدرتك، فأرني بدائع رحمتك، خيل لهم أن لا أمل في نجاة وليدتي، إنما ساقني إلى طمأنينة اليقين بجميل عطفك ما تنزلت به على نبيك: "وَلَا تَيْأَسُوا من رَّوْحِ اللَّهِ"، يا رب لم تكبر طفلتي قط، لكنني كبرت مع أيامها الحبلى بالمفاجآت، حتى لم تمض سنون إلا وهي تقاسي الألم وتتجرع الشكوى، فلاقت من المرض ما لم يلقه أحد، فاجعل السعادة تجري في أوصالها، وكن لمرضى هذه الأمة شافيا، فكم من ملتاع في شرقنا الأقصى لم يجد الدواء، وقد فتكت به الأسقام من كل جانب.

وكم في عالمنا العربي المحتاس؛ من مذبوح، مصلوب، مقهور، مكتوم الأنفاس، تعالت صرخاتهم فلا معين، وتقطعت بهم السبل فلم يؤوهم أحد، وقد فقدوا الأمل من بني جلدتهم وأتباع ملتهم، فالضمير الإنساني أزرى به الشلل، ومروءة البشر ما عادت تسري على قوانين الطبيعة، لم يبق لهم سوى أن يخبروا الله بما فعله الخذلان المقيت، وغدا بين يدي الله ستسألون.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان