أن يقدم رئيس حكومة العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو على خطوات سياسية وتشريعية (قانون الجزيرة) من أجل إطلاق يده لوقف وسائل الإعلام الأجنبية التي لا تروقه، والغرض أساسا إغلاق مكتب قناة الجزيرة داخل "إسرائيل" ووقف بثها ونشاطها الإعلامي من هناك، فهو الشيء الذي لا يشكل استثناء من مسار إرهابي طويل، مسترسل، صارم، غير متردد، وممتد بشراسة منذ ستة أشهر، ضد البشر والحجر، وضد كل شيء يمت بصلة إلى الحياة في أرض الإسراء والمعراج.
إن كان التشنيع على الفعل والنكارة على صانعيه ينبغي أن يأخذ حيزا من الرفض المادي والرمزي، مادام الأمر يتعلق بإغلاق مؤسسة إعلامية مهنية تضمن لها كل التشريعات حقها في التغطية الصحفية والعمل الإعلامي، فإن طبيعة المانع (كيان احتلال يطمس الحقائق) ونشاط الممنوع (أداة إعلامية تكشف الحقائق التي يراد طمسها) يخفف من الوقع والدهشة.
إننا والحالة هذه بإزاء طرفين نقيضين (بصرف النظر عن فارق "الطابع التكويني" لكل منهما فهذه دولة احتلال وتلك وسيلة إعلام) متباينين في كل شيء؛ في المنطلق، والمنهج، وأدوات الاشتغال، والغاية. وهي الدوائر الأربع التي ينظمها مساران لا يلتقيان؛ تشتم في أولهما رائحة القتل تطبق على المكان ومن خلفه يد تريد طمس معالم الجريمة، وتلمح في ثانيهما كاميرا ترصد الجرم الوحشي الدائر ومن ورائها عين تبغي إخراج الوقائع إلى دائرة الضوء ليراها الناس جميعا.
ليس في إمكان أي كان، مهما لاحظ واختلف، أن يقفز على صنع عظيم قدمه مراسلو الجزيرة وأطقمها داخل قطاع غزة طيلة مراحل العدوان الصهيوني الوحشي على القطاع.
لقد كانت قناة الجزيرة، بل شبكة الجزيرة بأذرعها المتعددة، لاعبا رئيسا في معركة طوفان الأقصى بدءا من ساعة الصفر، فسارعت منذ اللحظات الأولى يوم 7 أكتوبر إلى "تخصيص" شاشاتها للحدث التاريخي، ووجهت أطقمها وحشدت أدواتها صوب غزة الشامخة، فصنعت لنفسها وجودا وحضورا وصورة، استطاعت أن تضيفها إلى رصيدها الغني منذ نشأتها قبل 28 عاما.
وإلى اليوم، تواصل قنوات الجزيرة ومنصاتها المتنوعة المفتوحة على مدار اليوم، والتي تتمايز في مقارباتها وتتوحد في فلسفتها، تتبع يوميات العدوان وتفاصيل المواجهة، ليس في الحوارات السياسية وكلمات الزعماء والقادة وتحليلات الباحثين والخبراء والعسكريين فحسب، بل في حركة الميدان ومواجهات البنادق للدبابات والقذائف للآليات، كما في معاناة المواطنين وسط القتل والدمار والتهجير والتجويع، فتنتقل من بيت خرب إلى حي مباد إلى مشفى مقصوف إلى ملجأ محاصر إلى ميدان حرب وساحة مواجهة، في إصرار عجيب دفع كثيرين إلى أن عدوها من أدوات ثبات الشعب الفلسطيني على أرضه وإعادة بزوغ قضيته وبروز مظلوميته.
ليس في إمكان أي كان، مهما لاحظ واختلف، أن يقفز على صنع عظيم قدمه مراسلو الجزيرة وأطقمها داخل قطاع غزة طيلة مراحل العدوان الصهيوني الوحشي على القطاع، حتى بات قتل عدد منهم واستهداف عائلاتهم وإبادة أفرادها الوسيلة الإسرائيلية الوحيدة لإسكات هذا "الصوت المزعج"؛ وما قتل المصوّر سامر أبو دقة واعتقال الصحفي إسماعيل الغول، وكذا قتل والدي المراسل مؤمن الشرافي وعدد من إخوته، وإبادة 19 من عائلة مهندس البث محمد أبو القمصان بينهم والده، وقتل أب الصحفي أنس الشريف، إلا شواهد على رسوخ هذا الصرح الإعلامي الكبير. أما الشامخ وائل الدحدوح الذي سارت بتضحيته من أجل غزة وفلسطين والحقيقة الركبان، فحكاية لوحدها، ويكفيه، ويكفي الجزيرة، أنه صار "ثروة وطنية" فلسطينية، تصدر الصورة المشرقة للقضية، كما القناة، إلى العالم.
البث المسترسل الذي لا ينقطع ليل نهار ومن وراء ذلك جيش لا يهدأ من الصحفيين والتقنيين والمخرجين والإداريين. صورة شبكة المراسلين من محافظات القطاع والقدس والضفة وغلاف غزة، فهذا وائل الدحدوح وهذه هبة عقيلة وذاك إلياس كرام وذلك وليد العمري. تحليلات فايز الدويري العسكرية وإطلالاته التي رافقتنا معظم أطوار الحرب الهمجية و"تحيزاته" التي تبث العزم وتزرع الأمل والتي لا تخفيها لغة التحليل. التقارير الرائعة لـ"المدفعيات الثقيلة" فوزي بشرى باقتباساته المعتقة وفاطمة التريكي بصوتها الرخيم وماجد عبد الهادي بعنفوانه الفلسطيني. طيف جديد من الشباب المراسلين الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم ليطلوا علينا من وسط الأنقاض والركام والخراب، والطائرات تقصف من فوقهم والدبابات والقنّاصة بمحاذاتهم، وهم يتوشحون كاميراتهم وأصواتهم وقضيتهم ويؤدون دورهم كأنهم "رجال المقاومة". إطلالات أبو عبيدة المنتظرة ويوميات أسامة حمدان المطرزة وكلمات إسماعيل هنية الفاصلة على هذه القناة. تعقب دائم لـ"الداخل الإسرائيلي" ورصد لتباينات مجلس الحرب وصراعات أطراف الحكومة واحتجاجات أهالي الأسرى ووقوف عند التناقضات والأعطاب التي تضرب الاقتصاد والديمغرافيا والسياسة والسردية الصهيونية. وفي الواجهة الأخرى قناة أنيقة ناطقة بالإنجليزية قيل إنها -بعملها اليومي واحترافيتها- كانت أحد أهم أسباب تغيير المزاج الشعبي الغربي والأميركي.
ستظل الجزيرة، قناة وشبكة ومؤسسة إعلامية عملاقة، محط تقدير وإعجاب فئات عريضة من أبناء الوطن العربي والإسلامي، خاصة في مراحل معارك "أبناء المنطقة" مع الغازي والأجنبي كما في غزو العراق وحرب لبنان وحروب غزة وانتفاضات الفلسطينيين.
بعد كل هذا تسألني: لماذا اتخذ بنيامين نتنياهو قرار إغلاق مكتب الجزيرة داخل الأراضي المحتلة ومنع أطقمها من العمل؟! يا سيدي، وها أنت ترى ما فعل لإخراس صوتها داخل القطاع وليس فقط في الأراضي المحتلة، فالحق يقال، إنه تأخر كثيرا في إجرائه هذا! ولعله التأخر الذي لا تفسره سوى "نقمة الطمس" التي يصيب بها الحق سبحانه وتعالى الظالمين المجرمين، حتى لكأنهم لا يرون ما تحملق فيه أعينهم الشاخصة، وصدق الله العظيم إذ يقول "فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ" لأنها "لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ".
ستظل الجزيرة، قناة وشبكة ومؤسسة إعلامية عملاقة، محط تقدير وإعجاب فئات عريضة من أبناء الوطن العربي والإسلامي، خاصة في مراحل معارك "أبناء المنطقة" مع الغازي والأجنبي كما في غزو العراق وحرب لبنان وحروب غزة وانتفاضات الفلسطينيين. كما ستبقى مثار جدل ونقاش، خاصة حين تنتقل الصراعات إلى "الداخل العربي"، وحين تلتبس صراعات السياسة والمصالح والسلطة، فيطلب إليها التموقع الإعلامي -وليس فقط التغطية الصحفية الباردة- بما يجره معه هذا "التموقع" من جدل لا ينتهي؛ عن حدود المهنية والحياد والتحيز، وعن سؤال الحرية ومساحة تدخل السلطة في الإعلام. وهي القضايا الشائكة -العالقة- المطروحة على كل وسيلة إعلام، والتي قد تصيب فيها الجزيرة أحيانا وتخطئ حينا، كشأن كل صنعة بشرية آثرت أن تشعل الشمع وتحدث شيئا في دنيا الناس، عوض أن تلعن الظلام وتركن إلى زاوية الخمول.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.