كان لافتا في مثل هذه الأيام المباركة خصوصا، في الحي الذي ولدت فيه بتندرارة المغرب المنسي، حي” الرجاء في الله"، رجاء الناس ما عند الله، وتبادلهم أعطيات رمضان بلا قيد ولا تكلف. كنت وإخوتي وأبناء حينا نطوف على البيوت قبيل المغرب، نحمل حريرة هذا البيت إلى ذاك، وخبز هذه إلى تلك، وتمرا من هنا وبيضا من هناك، تسري في ذاكرتي الآن لذة إثر تذكر حريرة خالتي "رحمة" رحمها الله، ولم تكن تعدها بغير الزيت وشيء من البهارات، وطحينا. حتى إذا صبتها وطفا الزيت تأملنا الخرائط البادية وقارناها ببعض ما درسناه في حصة النشاط العلمي، وربما استلقينا من فرط الضحك.
في غير رمضان، كان يكفي سكان الحي أن تعد ربة البيت قصعة طعام، ليهبوا جميعا في إطار تعاوني يسمى "تويزة" للمساعدة في بناء بيت أو رفع سقف، وكم بيوتا بنيت بتويزة. حركة إنسانية لا تنقطع، تنم عن إيثار ومحبة وبساطة وعمق.
عبر الزمن وضع المجتمع العالمي معاناة الإنسان في صميم اهتماماته كما يقول صاحب كتاب "إمبراطورية الصدمة"، وتحول العمل الإنساني من حركة صغيرة في أجزاء معزولة إلى سمة رئيسية للحياة الاجتماعية
الإنسانية في الإنسان فطرة، وفيما بلغنا من آثار، مشاهد إنسانية فريدة منها ما حكم الوحي أنه كان مفتاحا للجنة. عذبت امرأة في قطة، ودخل الجنة رجل في كلب سقاه، هذه الآثار المباركة من فطرة الإنسان وسموه يوشك إن وجدت من ينميها ويوجهها أن تكون أرضية صلبة لمشاريع خيرية كبيرة؛ عام 1859 غادر رجل سويسري اسمه دونان منزله متجها إلى إيطاليا على أمل كسب تأييد لاستثمارات في مشاريعه التجارية. في طريقه، شهد معركة بين القوات الفرنسية والنمساوية المجرية في قرية سولفرينو الإيطالية. فأصابه الفزع من مشاهد المجزرة التي قطعا لا تعادل شيئا في سلم المجازر الحديث المدشن بغزة. لقد تألم لما يعانيه جنود جيشين نظاميين، تم التخلي عنهم في ساحة المعركة، فانضم تلقائيا إلى سكان البلدة لتقديم أي إغاثة ممكنة. غادر دونان جنيف كرجل يسعى للثراء وعاد إلى الوطن كشخص على وشك تكريس حياته لهدف إنساني أسمى. كتب مذكرات لإبلاغ الرأي العام بمحنة هؤلاء المتخلى عنهم في المعركة، واقترح حلا. وبعد ثلاث سنوات فقط، أنتجت جهوده اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) واتفاقيات جنيف المعروفة.
وعبر الزمن وضع المجتمع العالمي معاناة الإنسان في صميم اهتماماته كما يقول صاحب كتاب "إمبراطورية الصدمة"، وتحول العمل الإنساني من حركة صغيرة في أجزاء معزولة إلى سمة رئيسية للحياة الاجتماعية، بل كون حكومة إنسانية بعبارة ديدييه فاسان، هدفها "إدارة الجماعات البشرية باسم مبدأ أخلاقي أعلى يرى في الحفاظ على الحياة وتخفيف المعاناة قيمة أسمى".
غير أن هذه القيم ككل قيم الإنسان وأخلاقه، متأثرة بالنزوات الداخلية والاختيارات، وخاضعة للسياقات والأحداث. لم تغب الصدمة يوما عن إمبراطورية الإنسانية. ولم يغب ما يؤكد على ازدواجية المعايير. هذه غزة اليوم شاهدة شهيدة، وأوكرانيا تغمز من طرف خفي.
يتجه هذا النقد بالخصوص للقوى الدولية العظمى، التي تصر على ركوب أهداف العمل الإنساني السامي، يرى الحكيم تشومسكي أن العمل الإنساني دعامة إديولوجية للقوى العظمى لا أكثر، ولم يتوان في القول إن شائعات الإبادة الجماعية في كمبوديا قد تم تلفيقها من قبل وكالة المخابرات المركزية الأميركية. في كتاب آخر بعنوان "جيل جديد يرسم الخط" صرح أن "الدول القوية قادرة على فعل ما تريد وأن التدخل الإنساني يكون في اتجاه واحد فقط: من الأقوياء إلى الضعفاء. متهكما ألا أحد يتوقع من بنغلاديش التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة لإجبارها على تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، التي تهدد بغمر أجزاء كبيرة من تلك الدولة الآسيوية، ولا أحد سيقوم بقصف الولايات المتحدة لإجبارها على تعديل سياستها للهجرة أو سياستها النقدية بسبب عواقب تلك السياسات على الدول الأخرى. ووفقا لمنظور ماركسي، يعتبر كثيرون أن القوى العظمى تتخذ العمل الإنساني أفيونا لـ "الشعور بالرضا" يسمح للأغنياء بالنوم براحة في الليل على حد تعبير مايكل بارنيت.
ينبغي ألا نسمح لأنفسنا من باب الحرص على الموضوعية وتجنب جلد الذات، بتجاوز الأعمال الإنسانية الجليلة الجبارة التي تقوم بها منظمات إنسانية على مستوى عال من النزاهة والشفافية والخيرية منها الدولية ومنها العربية والخليجية على الخصوص
ويتجه النقد بدرجة ثانية إلى المؤسسات الإنسانية نفسها، أخص منها تلك التي تتعامل مع الأزمات بمنطق الفرصة، ولا يولد في روعها الفزع من مآسيها بقدر ما تتولد برامج جمع التبرعات، تماما كما لم يتولد في روع دونان الفزع إلا من تطاحن أوروبا بينها، يرصد المؤرخون أنه لم يقدم مذكرة تذكر عن الفظائع التي ارتكبتها القوى الأوروبية في المستعمرات. بل لقد كان مألوفا له ولغيره من الأوروبيين، أن أوروبا قد صعدت إلى قمة جبل أخلاقي وأن المسيحية والحداثة كانتا أدوات تحضر تعد المستعمرات بدخول التاريخ. إن العمل الإنساني مدعو للتخلص من شياطينه الداخلية، وقابليته للارتهان لسياسات خارجية، حتى لا يكون طرفا في هذه الازدواجية عن وعي.
ينبغي هنا ألا نسمح لأنفسنا من باب الحرص على الموضوعية وتجنب جلد الذات، بتجاوز الأعمال الإنسانية الجليلة الجبارة التي تقوم بها منظمات إنسانية على مستوى عال من النزاهة والشفافية والخيرية منها الدولية ومنها العربية والخليجية على الخصوص، منظمات دولية وعربية وإسلامية تستلهم رسالة الرحمة، وتمشي في العالمين بالرحمة، بارك الله الخطى.
وأما غزة فهي النداء والأمل، لم تعد تكفينا العبارات ولا العبرات، وإن من الصمت لحكمة حين تتفجر الأنهار من الحجارة. لا أزيد على أن أقول لغزة ما قال الله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.