بين الفن التشكيلي والمدينة، علاقة حميمية وألفة عميقة، تتوطد بالحنين إلى الماضي عبر استرجاع ذاكرتها المتوهجة وتاريخها الغابر، وتستمد أسرارها من نبض الأمكنة وحركة الناس اليومية. فالفنان التشكيلي يبحث عن معنى جديد للمدينة ومختلف عناصرها الفنية والجمالية، وينقب عن نبض حياتها ومعيشها اليومي، عبر استعادة تفاصيل حفريات الزمن الجميل، واستعارة مكنونات تراث وثقافة المدينة في أعماله الفنية، بغية استلهام الخصائص المكونة للهوية والثقافة عبر مسارات المكان والزمان، في ارتباطها الوثيق بالمدينة والإنسان، للكشف عن أبعادها وأسرارها.
ومدينة أصيلة (شمال المملكة المغربية)، باعتبارها ملهمة الفنانين، تزخر بمعالم تاريخية وعمرانية تشهد على استيطان وعبور شعوب وقبائل تناوبت على حكمها، وخلفت وراءها تراثا ثقافيا وعمرانيا ماديا وغير مادي في غاية التنوع والغنى، أضحى منبعا ملهما للفنانين والشعراء والكتاب والحكواتيين والصيادين.
تتميز مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء بتأثرها وتبنيها للفن التجريدي، فيما تتميز مدرسة الفنون الجميلة في تطوان بتبنيها لتيار فن التصوير الصبغي الواقعي (أي التشخيصية).
إن أغلب تجارب فناني بلدة أصيلة، نبعت من عمق المدينة، واستلهمت منها، باعتبارها فضاء تراثيا وفنيا نموذجيا للكينونة الفنيّة والجمالية.
أحد هؤلاء الفنانين البارزين، من أبناء هذه المدينة الأصيلة، محضن الفنانين ومحروسة المحيط الأطلسي، رأى فيها النور قبيل استقلال المغرب بثلاث سنوات (1956)، إنه الفنان والمبدع محمد الأمين المليحي.
لقد استوعبت أصيلة وآوت مختلف المكونات الحضارية والإثنية الوافدة إليها عبر العصور من مساحات متعددة من العالم منذ إنشائها، وأضحت أرضا للتعايش والتلاقح الثقافي؛ مدينة تتميز بطابعها المعماري العربي والموريسكي والمتوسطي والأمازيغي والأوروبي، وفيها بدأ الفنان الأمين المليحي مساره الفني، ثم تلقى تعليما أكاديميا في الفنون التطبيقية بمدينة الدار البيضاء، ليستكمله بعد ذلك بمدينة مرسيليا الفرنسية، حيث درس التشكيل وفن الخزف والصباغة والنحت. كانت العاصمة العلمية للمغرب فاس انطلاقته الأولى لتدريس الفن، ثم انتهى به المطاف بمسقط رأسه أصيلة أستاذا للتربية التشكيلية وتخرج على يديه فنانون مرموقون.
المليحي خريج مدرسة الدار البيضاء للفنون الجميلة التي أنجبت فنانين عالميين كالجيلالي الغرباوي، فريد بلكاهية، عبد القادر لعرج، محمد شبعة، محمد المليحي، أحمد الشرقاوي، محمد حميدي، الحسين طلال، والذين كان هاجسهم تقديم تجارب فنية متحررة من القيود والتأثيرات الغربية الكولونيالية، والتأسيس لتجربة مغربية متفردة تستمد سِماتها وخصوصيتها من محيطها وبيئتها المحلية، على الرغم من أن معظمهم حصل على تكوين في الأكاديميات الفنية الغربية وتشرب من معينها.
وتتميز مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء بتأثرها وتبنيها للفن التجريدي، فيما تتميز مدرسة الفنون الجميلة في تطوان بتبنيها لتيار فن التصوير الصبغي الواقعي (أي التشخيصية).
أصبح الفنان محمد الأمين المليحي مشرفا على ورشة الخزف والنحت في قصر الثقافة التي تقام في إطار فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي بمدينة أصيلة، حيث شارك في عدة معارض وطنية ودولية، وحصل على جوائز وطنية ودولية في مسابقات للتشكيل والخزف والنحت.
لقد بدأ ولعه بالرسم والفن التشكيلي عموما منذ طفولته، حيث اكتشف أدوات الرسم التي كان أشقاؤه يستعملونها في أعمالهم اليدوية (أقلام ملونة، صباغة مائية..) وكان شغوفا بتصفح كراساتهم والاطلاع على الرسومات التي ينجزونها ويستعمل أقلامهم الملونة لإبراز مهاراته وشغبه الفني. وفي نفس الوقت كان يشاهد والدته وهي تصنع الأحزمة الفاخرة التقليدية للتزيين التي كانت تستعمل في المناسبات تحت الطلب، لأجل تزيين العرائس، كانت الغرفة التي تشتغل فيها الوالدة شبيهة بورشة فنان تشكيلي بما تزخر به من أدوات ومواد مختلفة ومزركشة، حيث عاش معها تلك الطقوس "الفنية" الأصيلة التي أنجزت فيها تلك التحف.
يتفنن الفنان الأمين المليحي في صنع أشكال تعبيرية يستقيها من الهندسة التكعيبية ويصوغها بألوان متعددة تدهش العين، لخلق مادة فنية وتعبيرية ذات أبعاد متعددة وقراءات متباينة.
كل هذه المشاهد والأعمال اليدوية التقليدية، أثرت في مسيرة الفنان محمد الأمين المليحي، إضافة إلى تأثير محيط أسرته ومدينته أصيلة التي تزخر بفنانين طبعوا عالم الفن ووصل بعضهم إلى العالمية، وأضحت قبلة للفنانين من مختلف بقاع العالم.
إن أي تجربة من التجارب الفنية والإبداعية كيفما كانت وأينما أنجزت، مرتبطة ببيئة الفنان، ومحيطه ونفسيته وطبيعته وتربيته وتكوينه؛ وهكذا فالتجربة الفنية للمبدع الأمين المليحي، ترتكز على مقومات فنية وإبداعية غنية ومتعددة، تطلبت منه جهدا ونفسا طويلا وعملا متواصلا تداخل فيه الذاتي بالموضوعي والداخلي بالخارجي، وأنتجت لنا فنانا مبدعا بمقاييس عالمية، تميزت أعماله الفنية برحابتها واتساع أفقها الإبداعي المنفتح على تأويلات متعددة، الحاضن لألوان ورموز تراثية وأشكال هندسية، تبهر العين وتثير فضول الناقد الفني الذي يرغب في سبر أغوار أعماله الفنية.
ويعتبر الفنان محمد الأمين المليحي، من بين الفنانين التشكيليين المغاربة الذين أولوا اهتماما للمادة التراثية كمصدر للإلهام الإبداعي، حيث شكلت الموروثات الثقافية والشعبية بالنسبة إليه مصدر إلهامٍ، في تناغم بين التشكيل والموروث الجمالي، للنبش عن جذور الماضي تأصيلا للهوية وترسيخا للانتماء، من أجل اكتشاف القيمة الروحية للتراث، وعرضها عبر العوالم المشهدية البصرية التشكيلية، حيث تمثل الأشكال الهندسية في عمله الفني الإبداعي خطابا تواصليا بين ذات الفنان وذات المتلقي، وتعبيرا عن أحاسيس تترجمها رسوم وأشكال متعددة الألوان والدلالات. فتوظيف التراث في الفن التشكيلي بالنسبة إليه، يعتبر بمثابة مستند للهوية التي ينتمي إليها الفنان مع ما تحمله من دلالات وأبعاد بمفهومها الهوياتي.
على هذه المقومات الإبداعية والتيمات المتعددة، اشتغل محمد الأمين المليحي وأبدع في تبني نمط فني تعبيري مميز، يمتح أبعاده وخصائصه من الإحساس النفسي والاشتغال الذهني والمخيالي، حيث تتجلى أعماله كقصيدة شعرية عاشقة متعددة الأبعاد والقراءات.
يتفنن الفنان الأمين المليحي في صنع أشكال تعبيرية يستقيها من الهندسة التكعيبية ويصوغها بألوان متعددة تدهش العين، لخلق مادة فنية وتعبيرية ذات أبعاد متعددة وقراءات متباينة. ويعمد من خلال هذا الخلق الإبداعي إلى سبر أغوار الرموز والأيقونات في تناغم انسيابي بين مختلف العناصر المكونة لأعماله على مستوى الألوان والأشكال والعلامات والحروف، التي تمتح في عمقها من التراث المحلي ومن المتخيل الذهني للفنان، لإضفاء أبعاد جمالية وقيمية وشحنة فنية على أعماله. مستعينا بما راكمه من إبداع على طول مساره الأكاديمي والإبداعي المتنوع والغني، يستعيره من سياقات فنية انبثقت من فضاء مسقط رأسه أصيلة التي عانقت الفن بمختلف أبعاده الثقافية والجمالية، منذ أن تشكلت زرقة المحيط وتزينت عوالم المدينة بألوان البحر والسماء وتغنى الصيادون بأهازيجهم المعتادة.
إن لجوء الفنان الأمين المليحي إلى بناء أعماله من رموز وأيقونات وأشكال، يستمدها من روح التراث، وينسج على منوالها آفاقا رحبة من التعابير الفنية بحروف متناثرة بين ثنايا اللوحة أو الموضوع، تستهوي المشاهد أو القارئ وتدعوه إلى السباحة بشكل تلقائي وعفوي بين جنبات اللوحة الفنية بكل أريحية وانسيابية، تنتج تآلفا تاما بين الذات المبدعة وبين جماليات ودلالات الصورة أو الموضوع، وبانسجام بين عناصر اللوحة المشكلة للتصور الذهني والوجداني.
الحكاية الشعبية في نظر الفنان والمبدع محمد الأمين المليحي، بمثابة مرآة تعكس عادات مجتمعه المحلي وتقاليده وطرق عيشه بشتى صورها ودلالاتها الرمزية.
في بداية مساره الفني، تأثر المبدع محمد الأمين المليحي بالخط العربي، ثم بدأ يضيف أشكالا وألوانا وتعابير نابعة من محيطه وبيئته، إلى أن وجد نفسه يشتغل بطريقة وبأسلوب السريالية الهندسية، مازجا أشكالا من التراث بطريقة هندسية تتسم بالزخرفة وترتكز على الاستعارات اللونية، ويقتبس مما يجود به محيط بلدته أصيلة من بركات البحر والسماء وشروق وغروب الشمس وتلألؤ النجوم، متأثرا كذلك بأشكال هندسية لها جذور في الفن الإسلامي الأصيل.
إن التراث بالنسبة للأمين المليحي، يعتبر قيمة استرجاعية، ويشكل لديه الهوية التشكيلية والانتماء الثقافي ويتجسد في المشهدية البصرية لعوالم التشكيل التي تتخذ التراث ملهما للإبداع والاقتباس.
عند اشتغاله على الخزف، يحبذ الأمين المليحي استعمال الطين المحلي متعدد الألوان، سعيا وراء التناغم اللوني، وتعبيرا منه عن جذور الماضي وبديهية الانتماء.
ولم يكتف الفنان المليحي بتفجير طاقته في التشكيل والزخرفة والنحت، بل انطلق نحو اتجاه آخر كان له عونا في إبداع لوحاته الفنية، ألا وهو كتابة الحكايات الشعبية التي تمتح من التراث المحلي والمغربي وبما تختزله من قيم وحمولات ثقافية وتربوية ونفسية وتاريخية واجتماعية متعددة الأبعاد، وما تفرزه من تفاعلات الناس مع ظروف الحياة التي عاشها الإنسان.
فالحكاية الشعبية في نظر الفنان والمبدع محمد الأمين المليحي، بمثابة مرآة تعكس عادات مجتمعه المحلي وتقاليده وطرق عيشه بشتى صورها ودلالاتها الرمزية. متوجا هذا المسار الإبداعي بالجزء الأول من كتاب "مائة حكاية وحكاية من أصيلا"، الذي لاقى ترحيبا وإعجابا من طرف المهتمين وعموم القراء، في انتظار ولادة الجزء الثاني من هذه الحكايات، ليستمر مسار الإبداع الفني والأدبي في تناغم بديع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.