في يوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة المشرفة وقعت غزوة بدر الكبرى، تلك الغزوة التي كانت خطا فاصلا بين تاريخين، وبين حالين، ما قبل الغزوة وما بعدها؛ حيث كان حدثا غير مجرى التاريخ، وبه تغيرت حال المسلمين من الاستضعاف إلى التمكين، ومن مجرد جماعة معذبة مضطهدة إلى دولة يخشى بأسها، ومن ممارسة الدعوة مع التضييق بلا حماية إلى دعوة تحميها قوة؛ حيث اقترنت قوة البيان مع قوة السنان.
وها نحن في هذا اليوم 17 رمضان 1445هـ يكون قد مر على غزوة بدر 1443 عاما هجريا، ويكون قد مر على طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023م) أكثر من 170 يوما، فهل هناك علاقة ما أو وجه شبه ما بين الغزوة الكبرى والطوفان الأكبر؟ هذا ما سيتضح على النحو الآتي:
تحول العالم إلى فسطاطين: فسطاط الكفر الذي يحشد ويجمع ويتضامن ويمد العدو بكل ما يملك، ويزور ويؤازر لأغراض عقدية وحضارية وسياسية، وفسطاط آخر هو فسطاط العرب والمسلمين: شعوب مقهورة تحاول فعل شيء، وأنظمة حاكمة متخاذلة
البدايات والنيات
في غزوة بدر الكبرى خرج المسلمون لغير ذات الشوكة أي للعير لا للنفير، فأراد الله تعالى أمرا آخر تغيرت به المعركة، وتحول به وضع المسلمين: ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين﴾ [الأنفال: ٧].
وفي "طوفان الأقصى" خرجت الكتائب في حركة مباغتة لأسر بعض جنود الاحتلال في محاولة للتبادل بهم مع أسرانا في سجون الاحتلال الذين يبلغون الآلاف، ولردع الصهاينة عن ممارساتهم ضد الأقصى، ولكن الله أرادها على هذا النحو الذي استنفر المعسكر الغربي كله؛ ليتحول العالم إلى فسطاطين: فسطاط الكفر الذي يحشد ويجمع ويتضامن ويمد العدو بكل ما يملك، ويزور ويؤازر لأغراض عقدية وحضارية وسياسية، وفسطاط آخر هو فسطاط العرب والمسلمين: شعوب مقهورة تحاول فعل شيء، وأنظمة حاكمة متخاذلة ومتآمرة تمنع شعوبها وتقهرها، وتتعاون مع الاحتلال وتظاهره على المسلمين.
في طوفان الأقصى لم يدر في خلد أحد من الكتائب المجاهدة أن المعركة يمكن أن تتحول هذا التحول، ويتم أسر عدد كبير من قادة جيش الاحتلال كما وقع في بدر، ولم يكن في الحسبان أن تطول المعركة هذا الأمد
مجريات الأحداث
في غزوة بدر التقى الجمعان على غير جاهزية، لا من جيش المسلمين ولا من جيش الكافرين؛ حيث كان هذا الالتقاء إرادة إلهية محضة؛ ليفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، وكان من إرادته أن يغري كل فريق بالآخر، المشركون يرون المسلمين قلة من حيث الظاهر، والمسلمون يرون المشركين قلة على الحقيقة، وقد وصف القرآن الكريم هذا المشهد قائلا: ﴿إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور﴾ [الأنفال: ٤٣].
يقول صاحب الظلال عند تفسيرها: "ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة.. والمؤمنون يرون أعداءهم قليلا؛ لأنهم يرونهم بعين الحقيقة! -والمشركون يرونهم قليلا- وهم يرونهم بعين الظاهر- ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها، تحققت غاية التدبير الإلهي؛ ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه.. (وإلى الله ترجع الأمور)". أ.هـ.
وكانت الحصيلة أن استشهد من المسلمين في غزوة بدر أربعة عشر شهيدا – كما ذكر ابن هشام وابن كثير وغيرهما – ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس، وكان قتلى قريش سبعين رجلا، وأسر منهم سبعون آخرون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم.
وفي طوفان الأقصى لم يدر في خلد أحد من الكتائب المجاهدة أن المعركة يمكن أن تتحول هذا التحول، ويتم أسر عدد كبير من قادة جيش الاحتلال كما وقع في بدر، ولم يكن في الحسبان أن تطول المعركة هذا الأمد، ويكون فيها كل هذه التضحيات رغم إعدادهم واحتياطاتهم، ومن هنا خرج المخذلون والمثبطون والمنبطحون يلومون المقاومة ويحملونها سبب هذه الخسائر، ولكن لله تدبير آخر، وحكم آخر.
لقد أراد الله هنا -كما أراد هناك- أن يتجلى الحق ويظهر الباطل، ويتميز العالم بعضه عن بعض: شعوب تتحرك في الشرق والغرب، وحكومات ضاغطة في الشرق والغرب، شهداء هناك، ولكن هنا شهداء وجرحى بالآلاف، وهو ما يتناسب مع أعداد المسلمين هنا وهناك، ثبات وقوة ويقين واحتساب ورضا نراه رأي العين هنا، ونقرأ عنه في كتب السيرة "هناك"، مشروعان حضاريان يتدافعان هنا، وكذلك مشروعان حضاريان عقديان تدافعا هناك.
في طوفان الأقصى رأينا الصهاينة يعبرون عن هذا في أكثر من تصريح موثق عن قادة حربهم وعن جنودهم في المعركة بأنهم "يقاتلون أشباحا"، وهذه الأشباح التي عبروا عنها لا يستبعد أن تكون ملائكة من عند الله
الملائكة هنا وهناك
في حركة المعركة ومجرياتها، رأينا الملائكة في غزوة بدر تدافع عن المؤمنين وتقاتل معهم: ﴿إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان﴾ [الأنفال: ١٢].
وعن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال يوم بدر: (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) رواه البخاري.
وعن سماك الحنفي (أبو زميل) رضي الله عنه، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فمازال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} (الأنفال:9)، فأمده الله بالملائكة).
وفي طوفان الأقصى رأينا الصهاينة يعبرون عن هذا في أكثر من تصريح موثق عن قادة حربهم وعن جنودهم في المعركة بأنهم "يقاتلون أشباحا"، وهذه الأشباح التي عبروا عنها لا يستبعد أن تكون ملائكة من عند الله؛ فقد تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لـ جندي إسرائيلي يصرخ لصديقه في الهاتف مستغيثا من الحرب ضد قوات حركة حماس، حيث قال: «نحن نقاتل أشباحا، أنا لا أريد الموت، لقد رأيت صديقا يقتل أمام عيني، الوضع مؤلم ولا نريد الموت، أرجوك أخرجني من هنا».
وعن جنود حركة حماس قال: «وحوش حماس هؤلاء، لا أستطيع رؤيتهم، نحن نقاتل أشباحا، لقد رأيت صديقي يقتل أمام عيني، "أرجوك يتسحاك"، بدون سلاح الجو وسلاح البحرية لا نستطيع هزيمتهم، نحن لا نستطيع أن نتقدم حتى بالدبابات، ليس لديهم ما يخسرون، بكل الدبابات والمعدات القتالية». بينما كان الجندي الإسرائيلي يتحدث إلى صديقه عبر الهاتف استغاث به مطالبا بإرجاعه من غزة، وهو يبكي ويقول: «لا نستطيع عمل أي شيء، أنا أريد مغادرة البلاد، اسمعني ولا تقول لي اهدأ، أنت لا ترى ما أراه.. أرجوك انا أريد الخروج من هنا».
الرسم البياني للمقاومة في تصاعد، والعدو الصهيوني في تراجع؛ حيث فشل في تحقيق أي هدف من أهدافه حتى الآن، وقد بدا هذا ملحوظا ومقروءا منذ معركة "سيف القدس"
النهايات والخواتيم
انتهت غزوة بدر الكبرى بانتصار ساحق، غير الموازين، وبدل الأوضاع، وكتب به للمسلمين حياة جديدة ووضع جديد وقوة يخشى بأسها، "وازدادت ثقة المسلمين بالله تعالى وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ودخل عدد كبير من مشركي قريش في الإسلام، وقد ساعد ذلك على رفع معنويات المسلمين الذين كانوا لا يزالون في مكة، فاغتبطت نفوسهم بنصر الله، واطمأنت قلوبهم إلى أن يوم الفرج قريب، فازدادوا إيمانا على إيمانهم، وثباتا على عقيدتهم".
وإنا لنرى -بإذن الله تعالى- أن معركة "طوفان الأقصى" -رغم الجراح والدمار والدماء والآلام التي تعز على كل مسلم- لن يكون ما بعدها مثل ما قبلها، فالرسم البياني للمقاومة في تصاعد، والعدو الصهيوني في تراجع؛ حيث فشل في تحقيق أي هدف من أهدافه حتى الآن، وقد بدا هذا ملحوظا ومقروءا منذ معركة "سيف القدس"، وإن هذا التداعي الغربي الذي نراه اليوم قد أسقط المشروع الغربي في التردي الأخلاقي، والمهانة الإنسانية، وانهيار القيم "المزعومة"، والليالي القادمة حبلى بالأحداث والتغييرات الكبرى، التي ستثبت لنا وتتكشف عن أن معركة "طوفان الأقصى" كانت بدايات التحرير الكامل للأسرى والمسرى والقدس وفلسطين ﴿إِنَّهُمۡ یَرَوۡنَهُۥ بَعِیدࣰا ٦ وَنَرَىٰهُ قَرِیبࣰا ٧﴾ [المعارج ٦-٧].
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.