في طريقهم صوب إحدى قاعات السينما الكبرى بمدينة الدار البيضاء، وهم في سيارة النقل المدرسي تعلو محياهم علامات الفرح والمرح، وفي وقت يوحي المشهد ألا شيء يدور في خلدهم سوى العرض المنتظر، ليسلوا عن أنفسهم ويتفكهوا بعيدا عن صرامة الدرس والقسم، ودون مقدمات، رددوا أغنيتهم التي باتت مفضلة منذ خمسة أشهر "منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي".
ولأن الأغنية اقترنت عندهم حصرا بغزة، البطلة في مخيالهم الآخذ في التشكل، المظلومة ظلما لا تستوعبه عقولهم التي لما تتفتح بعد، أتبعوها بشعارهم الذي باتوا يحفظونه حفظهم لأغنياتهم وأناشيدهم "غزة غزة.. رمز العزة". وحين اقتربت السيارة من وجهتها، مرت في طريقها بالقرب من محل لبيع الأكلات الجاهزة، والمحبب في الأوضاع العادية إلى الأطفال وأذواقهم، لترتفع أصواتهم مجددا "مقاطعون لماكدونالدز.. ماكدونالدز حرام"!
تحكي أمها للأستاذة أنها حين اشترت لصغيرتها كتاب معجم فرنسي-فرنسي تحتاجه في الدرس وليساعدها في إغناء رصيدها اللغوي، وبينما تتصفح الطفلة الكتاب وجدت أن آخره قد ذيل بأعلام وأسماء عدد من الدول، فلمحت علم الكيان اللقيط ومكتوب تحت اسمه الطارئ (إسرائيل)، ولم تجد لأصحاب الحق الأصليين وجودا، فما كان من الصغيرة إلا أن عمدت إلى المبيض ولونت المساحة المخصصة للدويلة الدخيلة بالبياض، ثم خربشت فوقه بالأحمر والأخضر والأبيض والأسود راسمة العلم الشامخ، ولترصع تحته اسم فلسطين الراسخ.
هؤلاء البراعم الصغار الذين بالكاد تتراوح أعمارهم بين السادسة والسابعة، هذا ديدنهم منذ السابع من أكتوبر الماضي يوم الملحمة الكبرى التي غيرت الخارطة الذهنية لصغارنا بقدر ما غيرت الوجه السياسي لمنطقتنا.
تحكي أستاذتهم، التي كان لها الفضل الأكبر في زرع بذرة القضية في دواخل فطرهم النقية، والتي اجتهدت في إحاطتهم بلغة طفولية يفهمونها بما يجري في أرض الإسراء والمعراج، أن مظاهر وتجليات الارتباط بالقضية الفلسطينية والانحياز البات لأهل غزة وأطفالها كثيرة ومتعددة وشبه يومية عند تلاميذها الصغار، بما يؤشّر على أن وعيا جنينيا يتفتق في عقولهم وإدراكا يانعا ينغرس في شخصياتهم.
واحدة من تلميذاتها الصغيرات النجيبات، تجاوزت رقابتها للتفاصيل الصغيرة التي تحيط بها حدا لا يقوم به إلا الكبار، إذ تحكي أمها للأستاذة أنها حين اشترت لصغيرتها كتاب معجم فرنسي-فرنسي تحتاجه في الدرس وليساعدها في إغناء رصيدها اللغوي، وبينما تتصفح الطفلة الكتاب وجدت أن آخره قد ذيل بأعلام وأسماء عدد من الدول، فلمحت علم الكيان اللقيط ومكتوب تحت اسمه الطارئ (إسرائيل)، ولم تجد لأصحاب الحق الأصليين وجودا (وانظر معي هذا الاختراق الثقافي والتعليمي الجاري في واحدة من دول العرب والمسلمين!)، فما كان من الصغيرة (الراشدة) إلا أن عمدت إلى المبيض ولونت المساحة المخصصة للدويلة الدخيلة بالبياض، ثم خربشت فوقه بالأحمر والأخضر والأبيض والأسود راسمة العلم الشامخ، ولترصع تحته اسم فلسطين الراسخ.
تلميذ آخر، وبينما كان مدعوا صحبة أمه وأسرته إلى عرس عائلي، وجد قنينات مشروب غازي على الطاولة التي تحلقوا حولها، وهو المشروب الذي قيل له إنه منتوج شركة تدعم الكيان وجنده، وبفطرة الصغار التي لا تكترث لحسابات العلاقات ولمشاعر الإحراج والتخوف والتردد، بدأ يقول بلغته البسيطة الفطرية ويردد "هذا المشروب حرام ويدعم اليهود الذين يقتلون أطفال فلسطين"، مطالبا، بصرامة الكبار لا الصغار بإزالته من الطاولة! وأمام هذا التذكير الصادق، الذي خلف إعجابا ممزوجا بالإحراج، بادر المتحلقون حول المائدة، والذين كان أغلبهم من أقاربه، إلى إزالة المشروب المنبوذ. لينتبه أيضا أن المشروب موزع على باقي الموائد، فأظهر مجددا عدم الرضى واستغرب كيف أنه موجود أصلا، داعيا أمه إلى إزالته، والتي ما كان منها إلا أن تلجمه بما تستطيع. في مشهد مليء بالدروس التي يلقنها جيل قابل لجيلنا، مشهد تخترقه جملة من المعاني الحائرة المحرجة.
في القسم الذي يضم هؤلاء التلاميذ الصغار، وفي مدرسة خصوصية لا تعلي كثيرا من شأن الارتباط بالقضية ولا ببعدها الديني والحضاري، ورغم طبيعة تكوين أغلبهم والذي يميل -نظرا لوعي الآباء وقناعاتهم وسلوكاتهم- صوب الفرنسة لغة وثقافة، باتت غزة العزة قضية تشغل بالهم ولا تغيب عن مخيلتهم؛ فترى بعضهم يتفاخر وهو يخبر معلمته وزملاءه أنه شارك في عطلة نهاية الأسبوع في وقفة أو مسيرة ورفع الشعارات وعلم فلسطين، وترى آخرين يتسابقون ليعرضوا رسوما صاغتها أناملهم الغضّة تبرز الكوفية أو الراية أو مشهدا لتقتيل سكان غزة ونساءها وأطفالها، ويا ويل من جاء بأكلة أو مشروب أو شوكلاتة أو حلوى شاع بينهم وذاع أنها من "الماركات" التي يجب مقاطعتها لأن أصحابها يواصلون دعم قتلة الأطفال، يتجمهر عليه باقي التلاميذ والتلميذات تأنيبا وتوبيخا ومقاطعة، قبل أن تتدخل الأستاذة لتخفيف التوتر وتلطيف الجو.
هذه القصص تكشف أن تحولا جرى في أذهان صغارنا ووعيهم وفي سلوك أطفالنا وعاداتهم، ولكنه تحول غير مكتمل، فهم كالزرع الذي يحتاج المزيد من السقي والرعاية والتشذيب، وإلا أصابه التلف.
المدهش هنا، كما صورت لي أستاذتهم، أن سؤالا طفوليا قد يطرحه أحدهم لم يستوعبه بعد عقله الصغير؛ أنا إذا اشتريت الشوكلاتة من بقال الحي كيف أدعم "إسرائيل" وأساهم في قتل الفلسطينيين؟! لتتعالى الأصوات مزدحمة -كزقزقات صغار العصافير في عشها- تتسابق نحو الجواب، غير الواضح تماما لمعظمهم، محاولين التوضيح والإقناع. ومن تلك الأصوات، صوت متثاقل، كأن صاحبه نعسان، يرتفع مجيبا بلغة فرنسية سليمة " Vous achetez cet article avec votre argent auprès de cette société, et elle l’envoie à Israël, qui tue les enfants de Palestine".
هذا حال مجموعة من تلاميذنا الصغار، وواقع قسم من أقسام مدارسنا، وهو الوضع الذي لا شك يعكس حال معظم صغارنا وأقسامنا ومدارسنا، وإن بنسب متفاوتة، خاصة حين يقوم الآباء والأساتذة كل بدوره، وحين يستشعر الجميع مسؤوليته الدينية والأخلاقية والإنسانية، فيعتنق القضية ويستشعر محوريتها ويعي خطورة المرحلة وحساسيتها، ويدرك حجم التضحيات الضخمة التي يقدمها أهلنا العزل في غزة.
إن هذه القصص تكشف أن تحولا جرى في أذهان صغارنا ووعيهم وفي سلوك أطفالنا وعاداتهم، ولكنه تحول غير مكتمل، فهم كالزرع الذي يحتاج المزيد من السقي والرعاية والتشذيب، وإلا أصابه التلف. وهو ما يحملنا مسؤوليات جسيمة، جوهرها مواصلة التوعية والتربية، وبناء شخصيات أبنائنا وتلاميذنا على حب فلسطين والوعي بمكانتها، والانتصار للعدل والدفاع عن المظلوم، ونصرة المسلمين وعموم المقهورين.
أجد حقا أن أطفالنا أكثر مبدئية من الكثير منا من الكبار والراشدين، وأجد أن سلوكهم اليومي يحرج بعضنا ويسائل آخرين. ولعلهم يطرحون علينا أسئلة عسيرة غدا، حين يرشد وعيهم ويصبحوا شبابا وشوابا، وحين يستعيدوا شريط معركة "طوفان الأقصى" وطبيعة مواقفنا ونوع فعلنا أفرادا وأمة وأجيالا، ويقيسوا كل ذلك إلى استعداداتهم الفطرية العالية التي أظهروها أمامنا وأحرجونا بها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.