إذا كنا قد وقفنا في الجزء الأول من هذه المناقشة لمصطلح العلمانية، بين فتح العين وكسرها، لدى الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود، وتبين لنا أن محمودا يرى بعبارات صريحة جلية؛ أن الدين -في الفكر الإسلامي- عاش -ولا يزال- في تآلف وتعانق مع العلم؛ فإننا سنراه هنا يعزز موقفه سالف الذكر ذلك، بما هو أشد جرأة وقوة.
المشكلة العلمانية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ تتمثل في ضعف إدراك مزدوج، وقع فيه طرفان متقابلان في هذه المعركة -بحسب محمود كذلك- أي الطرف الذي يقف مستبسلا لفرض العلمانية على مجتمعاتنا، ظنا منه أن هناك تعارضا في الإسلام بين الدين والدنيا
العلمانية معركة أوروبية ووهم مركب
يذهب الدكتور زكي نجيب محمود إلى أننا إن اتفقنا على تلك الحقيقة السالفة، من كون العلاقة بين العلم والدين في تاريخنا الإسلامي علاقة تآلف وتعانق؛ فسيصبح استمرار الجدل حول مفردة العلمانية – سواء قال البعض بفتح عينها أم بكسرها- وهما مركبا، لا مسوغ له، إذ "لا وجود في لغتنا -قديمها وحديثها معا- لهذه الكلمة، فدورانها على الأقلام إذن وهم يضاف إلى وهم، ليكتنف حياتنا وهم مركّب" (محمود، عين- فتحة- عا، ص13، وعن الحرية أتحدث، ص 137-138)، الأمر الذي يعني أن المشكلة العلمانية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ تتمثل في ضعف إدراك مزدوج، وقع فيه طرفان متقابلان في هذه المعركة -بحسب محمود كذلك- أي الطرف الذي يقف مستبسلا لفرض العلمانية على مجتمعاتنا، ظنا منه أن هناك تعارضا في الإسلام بين الدين والدنيا، أو بين الدين والعلم، وطرف آخر يقف مستبسلا كذلك في معارضتها، حين يتصور أن الإسلام يمكن له أن يعارض العلم وبناء الكون وإعماره، والقيام بدور الاستخلاف على هذه الأرض (راجع: محمود، عين- فتحة- عا، ص13، وعن الحرية أتحدث، ص 135-136).
وبعيدا عن مدى وجود الطرف الآخر (الرافض للعلم وبناء الكون أو استعماره)، الذي أشار إليه محمود، في عالمنا الإسلامي، وحجمه وتأثيره الفعلي؛ فأحسب أن ما يترتب منطقيا على تقريره السابق، ويتسق مع ما أكد عليه غير مرة، من عدم وجود ذلك التعارض الموهوم في ديننا بين العلم والعالم، أو العلم والدين؛ أنه لا تثريب إذن علينا، إذا نحن استخلصنا من تقريراته المتتابعة هذه؛ قيام اتجاه ثالث، يرفض مسلك الطرفين المتطرفين المشار إليهما، مادام أن فكرنا الإسلامي، وتاريخنا الحضاري؛ لم يشهد حالة الصراع التي حدثت في أوروبا، بين ذينك الطرفين، إذ الإسلام لا يدعو إلى تعارض بين العِلم الذي يقود إلى الإيمان، والعالم الذي كلف أبناؤه بتعمير الكون والاستخلاف فيه، أو الدين والدنيا من جهة، والدين والعلم من الجهة الأخرى، كما لا يرى هذا الاتجاه، مسوغا من الأساس للتفكير في نموذج خارجي، لا يمتلك مشروعية الاستدعاء، بدعوى خوض معركة ضد الدين الذي يتخيله معارضا لبناء الكون وإعماره، أو مواجها للعلم وإنجازاته الحضارية، المفيدة للإنسان وتقدمه ورقيه، مادام أن كلا الفرضيتين لا وجود لهما، في الفكر الإسلامي، ولا تاريخ المسلمين، أي أن هذا الطرف الثالث الوسط؛ ينفي عن الإسلام وقوعه -ابتداء- في أيّ من الفرضيتين المتطرفتين (الطرف العلماني الرافض للدين، والطرف الديني (المفترض) الرافض للدنيا).
مثل هذا الرأي من شخصية فلسفية بحجم الدكتور زكي نجيب محمود؛ يعد من المراجعات الجريئة، المتناقضة جوهريا، مع ما عرف عن الرجل -لزمن طويل- من غرام مفرط بالغرب والاستبسال في سبيل إحلال فلسفة الوضعية المنطقية مكان فلسفة المجتمعات الإسلامية
وإذا كان الدكتور زكي نجيب محمود قد أكد غير مرة على أن فلسفتنا الفكرية نابعة من الدين، الذي يهتم بالعلم، ولا يفرط بالعالم أو الدنيا، في الوقت ذاته، كما هو معلوم من فكره بالضرورة؛ فإننا نراه -أي الدكتور محمود- ينص في موضع آخر، على أننا غير معنيين بذلك الجدل الأوروبي العريض، في هذه المسألة، من منطلق عقيدتنا ومرجعيتنا الإسلامية الأصيلة فقال:
- "ما لنا نحن بهذا كله، وليس في عقيدتنا ما يدعونا إلى إهمال هذا العالم؟ بل العكس هو الصحيح، فقد أُمرنا بأن نحتفل بالدنيا وكأننا نعيش فيها أبدا، وأن نعمل للآخرة كأننا منتقلون إليها غدا، ما لنا نحن بذلك كله، والدنيا في عقيدتنا هي الفرصة التي أتيحت لنا ليبلونا الله تعالى فيها أينا أحسن عملا؟ إن صيغة الحياة للأوروبي في عصوره الوسطى يمكن إيجازها كما يلي: إما الدنيا وإما الآخرة، ولا اجتماع بينهما، فمدينة الأرض شيء مبتور الصلة بمدينة السماء، وأما صيغة الحياة عندنا فيمكن إيجازها فيما يأتي: لا بد للحياة الدنيا أن تمارس على أن تظل الآخرة هدفًا أسمى، فكلتاهما خير، ولكن الآخرة خيرٌ وأبقى، والآخرة خير من الأولى، فهل هناك – إذن- في حياتنا وعقيدتنا ما يدعو إلى صيحة تقول: عليكم بهذا العالم فلا تهملوه؟! فإذا كنا قد رأينا أنفسنا وقد أهملناه بالفعل، وغفونا عنه، فأخذ منا الضعف والهزال والفقر والجهل، حتى أمسك الطغاة برقابنا؛ فإن ذلك لم يكن ناشئًا عن عقيدة تحول بيننا وبين هذا العالم، بل كان لأسباب حضارية، وهذه الأسباب هي التي يجب أن نقلعها من أرضنا اقتلاعا" (راجع: محمود، عين- فتحة- عا، ص13، وعن الحرية أتحدث، ص 135).
والرجل بهذا الموقف في جملته؛ يكون قد أصدر في توجهه هذا من منطلق العقل التوحيدي، الداعي إلى الجمع بين الإيمان والعلم، والدين والدنيا، ضربة موجعة جدا، إلى فلسفة الوضعية المنطقية والعلمانية معا، إذ يصبح -عملياً- ناقضا لهما من الأساس، في ضوء مفهوميهما المعروفين في الغرب، بلد المنشأ والتصدير، وهو ما تمت الإشارة إليه في الجزء الأول.
وصفوة القول: إن مثل هذا الرأي من شخصية فلسفية بحجم الدكتور زكي نجيب محمود؛ يعد من المراجعات الجريئة، المتناقضة جوهريا، مع ما عرف عن الرجل -لزمن طويل- من غرام مفرط بالغرب والاستبسال في سبيل إحلال فلسفة الوضعية المنطقية مكان فلسفة المجتمعات الإسلامية، التي كان يصفها بـ"الميتافيزيقية"، بل بـ"خرافة الميتافيزيقا" -وهو عنوان أحد كتبه-. وحتى إذا نازع البعض في كون هذه مراجعة، كون الرجل لم يعرف عنه التصريح بكونها كذلك، كما هو المعهود لدى مفكرين وفلاسفة آخرين؛ فإن مضمون رأيه وموقفه لا يخرج عن هذا المعنى، لدى كل باحث محقق، والتعلق بالتصريح، يصبح تعلقا بالمبنى والنص الظاهر، لا بالمعنى والدلالة والمقصد الجلي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.