شعار قسم مدونات

الفلسطينيون.. المورسكيون الجدد

ذكرت الأستاذة روميرو بأن الكثير من العائلات في شمال المغرب العربي من أصلٍ مورسكي ما زالت تحتفظ بمفاتيح بيوتها في الأندلس (الجزيرة)

أنهيت حلقتين من "بودكاست مغارب" مع الباحثة المورسكية أديبة روميرو، وعلى الرغم من الاستماع لهما بشكل متقطع، وعلى أوقات فيها شيء من التباعد لظروف كثيرة، إلا أنها كانت من أجمل ما يمكن لمحب التاريخ وللشغوف بالأندلس أن يتابعها، إن من حيث التجربة الشخصية للضيفة ولعائلتها، وتلك الرحلة من الغرب إلى قلب الشرق مكة المكرمة، ومن ثم رحلتهم في التعرف على جذورهم المورسكية، إضافة إلى ما مر معها وعايشته من تجارب ومحطات، وما في جعبتها من قصص أخاذة وتفاصيل مبهرة، جعلت هذه السويعات سحرية، خاصة أن الكثير منا يتوقف لديه التاريخ الإسلامي في الأندلس عند سقوط غرناطة، أو عند ما يسمى "الطرد الكبير"، ومن ثم يحاول إمساك أطراف قصص من بقي من المسلمين (أصحاب البلاد) في تلك الديار، ولكن أنا له ذلك.

ذكرت الأستاذة روميرو بأن الكثير من العائلات في شمال المغرب العربي من أصلٍ مورسكي ما زالت تحتفظ بمفاتيح بيوتها في الأندلس، فقد ظنوا حينها أنها مرحلة لن تطول، وفي مقاربة بالغة اللطف، قالت روميرو بأن هناك أقفالا في غرناطة أو قرطبة، مفاتيحها في شفشاون أو تطوان

وفي الحديث عن الأندلس شجون كثيرة، وتفاصيل لا يكاد الزمن إلا ويكشف لنا المزيد منها، من اكتشافات ومخطوطات وغيرها، وقد لفتني في الحلقة بأن الكثير من المورسكيين الذين فروا من بطش محاكم التفتيش إلى شمال المغرب العربي حملوا معهم مفاتيح بيوتهم، في فعل مشابه لما قام به الفلسطينيون عام 1948، وقد أشارت روميرو إلى أن الشعب الفلسطيني أكثر الشعوب التي تشبه المورسكيين، وأشارت الأستاذة إلى أن الفلسطينيين الذين قابلتهم كانوا أكثر الناس فهما واستشعارا بما حل للمورسكيين. ولا يحق لي الزعم بأنني أول من عقد هذه المقاربة، فمحاولة إيجاد القواسم ما بين التاريخ الغائر والواقع المعاش ليس بالأمر الجديد، وقد كتبت شيئا من ذلك من سنوات عدة، وهو ما أعادني إلى التفكر مجددًا بأوجه الشبه ما بين حالة ذلك الشعب الذي اضطهد في إسبانيا، وعن تلك الحضارة العظيمة التي أريد لها أن تظل طي الكتمان، وما بين حالة الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض في الوقت الحاليّ لجرائم متتالية، وحصار وتجويع مقيت، وكأن كأس الظلم واحدةٌ من أطراف أوروبا إلى قلب مشرقنا الإسلامي.

وقد طفقت أتفكر في إيجاد القواسم المشتركة ما بين هذين الشعبين المسلمين العظيمين، ووجدت تشابها ملفتا انقدح في الذهن بعد اكتمال هذا "البودكاست" الشائق، أشاركها معكم أيها القراء الأكارم:

الأولى، ذكرت الأستاذة روميرو بأن الكثير من العائلات في شمال المغرب العربي من أصلٍ مورسكي ما زالت تحتفظ بمفاتيح بيوتها في الأندلس، فقد ظنوا حينها أنها مرحلة لن تطول، وفي مقاربة بالغة اللطف، قالت روميرو بأن هناك أقفالا في غرناطة أو قرطبة، مفاتيحها في شفشاون أو تطوان، وفي سياق مفتاح حق العودة الذي حمله الفلسطينيون عام 48، وقد رأينا الكثير من المقاطع المصورة لعجائز فلسطينيين، في لبنان أو الأردن وغيرها من البلاد يحملون مفاتيح بيوتهم، وأستعير من الأستاذة روميرو، كم من بيت في حيفا وعكا ويافا والشطر الغربي من القدس المحتلة، مفاتيحه في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو في مخيمات الشتات في لبنان وسوريا والأردن، ولعمري إنها لمقاربة عجيبة تفصل ما بينهما نحو 450 عاما.

في فلسطين عمل المحتلون على ابتكار تاريخ جديد لتلك البلاد، مدعين أنها أرض خالية من البشر، فنشروا مقولتهم الشهيرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، مرورا بالادعاء بأن تلك البلاد خالية من السكان، وأنها صحراء قاحلة

أما الثانية، فهي عن كم الادعاءات الكاذبة، والتاريخ المسلوب لهذين الشعبين، فقد حاول الغالب في الحالتين أن يستلب تاريخ المغلوب، وأن يحاول مسح ذاكرته، ويستولي على إرثه وتراثه، وفي الأندلس كانت من خلال الادعاء بأن المسلمين عنصر دخيل على شبه الجزيرة الإيبيرية، وأنهم عادوا إلى موطنهم الأصلي، ومن ثم إطلاق الأكاذيب الكثيرة عن آخر عهودهم، فقد نفت روميرو -وغيرها من الباحثين- مقولة والدة أبي عبد الله آخر سلاطين بني الأحمر في غرناطة لابنها عند خروجهم "ابك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه مثل الرجال"،  ليظهروهم ضعفاء جبناء غير أكفاء، ومحاولة القراءة المجتزأة لذلك التاريخ، وغيرها من تفاصيل مرعبة عاشها من بقي من المسلمين هناك، من خلال إجبارهم على ترك الإسلام وحرق إرثهم المعرفي وكتبهم.

وفي فلسطين عمل المحتلون على ابتكار تاريخ جديد لتلك البلاد، مدعين أنها أرض خالية من البشر، فنشروا مقولتهم الشهيرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، مرورا بالادعاء بأن تلك البلاد خالية من السكان، وأنها صحراء قاحلة، وما يتصل بتلك المحاولات من ترسيخ حق ديني مبتدع، وأساطير يحاولون حتى يومنا هذا تحقيقها في القدس والأقصى، في سيرورة متصلة من الإحلال الديني، والديموغرافي، وما يتصل بالسرقات الكثيرة لتراث الفلسطينيين وآثارهم، بل وطعامهم، وحتى مكتبات أدباءهم وعلمائهم، وقائمة السرقات مستمرة في قطاع غزة حتى اللحظة.

والثالثة، تتمثل بالاستيلاء على أراضيهم ومحاولات طردهم من بلادهم، ففي الأندلس حاولوا اجتثاث المورسكيين، وكان ما يسمى "الطرد الكبير" جزءا من تلك المحاولات، وعقدوا واحدة من أفظع المحاكم في التاريخ ليسلخوا أمة عن لغتها وفكرها وعقيدتها، أما في فلسطين فما زال العدو يحاول تهجير الفلسطينيين، فحينًا يستهدف أهالي حي الشيخ جراح أو بلدة سلوان في القدس المحتلة، وحينا يحاول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، محاولات مستمرة، وفي الحالتين شعبٌ صمد في أرضه وتشبث بها، أما الأول فقد ذاب أو كاد، أما الثاني فما زال حتى اللحظة يواجه العدو بكل بسالة واقتدار، ويجابه مخططات الطرد والاجتثاث وهو ثابت شامخ مهما دفع من أثمان باهظة.

وجوهنا جاهمة، وقلوبنا يعتصرها الألم، على مواجع أهلنا الأكارم في غزة، نعم كنا نبكي ونتحسر على خسارة الأندلس، فهي خسارة حضارية وتاريخية وإنسانية، ولكننا لا يجب أن نبكي على مأساة فلسطين، ولا يجب أن نقبل بأن تكون "أندلس أخرى"

الرابعة، مباركات القتل والدعم للظالمين، فكما هي الحال اليوم من دعم شبه مطلق من قبل العديد من الدول لدولة الاحتلال، وما ترتكبه من فظائع في القطاع، وإمدادهم بأدوات القتل، التي تستهدف الفلسطينيين صباح مساء، وكانت التبريكات تتوالى على ملوك الإسبان وما قاموا به بحق المسلمين.

الخامسة، أثر هذه الشعوب في العالم، فقد وجد الباحثين آثارا للمورسكيين في أميركا اللاتينية، وكانوا سبب نجاح رحلات كولومبولس بحسب الكثير من المتخصصين في دراسات تلك الحقبة، وغيرها من قصص تتكشف تباعًا، إن من آثار في اللباس في بعض بلاد القارة الأمريكية، أو وصولهم إلى العالم الجديد ووجود آثار للمسلمين في تلك الديار وغيرها. وعلى غرار المورسكيين يترك الفلسطيني أثره في كل مكان وساحة، إن في العلوم أو الأدب أو التجارة، أو الوجود المباشر في أصقاع المعمورة، وهو يعمل ويناصر قضيته ولا يتنازل عنها أبدا.

في نهاية المطاف، نكتب مثل هذه الكلمات ووجوهنا جاهمة، وقلوبنا يعتصرها الألم، على مواجع أهلنا الأكارم في غزة، نعم كنا نبكي ونتحسر على خسارة الأندلس، فهي خسارة حضارية وتاريخية وإنسانية، ولكننا لا يجب أن نبكي على مأساة فلسطين، ولا يجب أن نقبل بأن تكون "أندلس أخرى"، فتلك التضحيات الجليلة والدماء الزاكية لا يجب أن تكون مدار التمجيد فقط، بل هي جزء من سيرورة التغيير الكبرى، فعلينا أن ننفي كل مقولات الخنوع والجزع عنا، وأستعير ختاما ذلك الجزء من تميم البرغوثي في خطابه للعدو:

أدري بأنك لا تخاف الطفل حيا

إنّما أدعوك صدقا، أن تخاف من الصغار الميتين

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان