لمن لا يعرف، فإن مدينة غزة وما حولها، تختلف قليلا عن باقي فلسطين. فغزة، التي دفن فيها جد الرسول محمد عليه الصلام والسلام، هاشم، أثناء ما ورد بالقرآن والكريم أنه "رحلة الشتاء والصيف"، عدا عن أنها مدينة تجارية عريقة، فهي على مفترق طرق الساحل الفلسطيني المدني، وهي البوابة للبادية لبئر السبع وللجزيرة العربية، هي على شاطئ المتوسط وقريبة من البحر الأحمر. وبهذه بهذه الجغرافيا التاريخية الحضارية، أنتجت غزة، مجموعة من الأسر العريقة، التي تجمع جموح البداوة وأرستقراطية المدينة البحريّة، فهي في الأصل مدينة مُتعالية، استقبلت اللاجئين، وأصبحوا منها وأصبحت فيهم.
كانت قصص الجوع في لبنان في الثمانينيات، ومجازر المخيمات بما فيها "صبرا وشاتيلا"، محطة تحول في سيرة كثير من أبناء ذلك الجيل، الذي سعوا إلى الانضمام للثورة وإلى فصائلها
نتذكر أن سورة قريش التي وردت فيها رحلة الشتاء والصيف، تتحدث عن الجوع، "لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)". ويقول مقال أعده فريد أبو سعدة، في مجلة العربي، الكويتية، "أصابت قريشا سنوات قحط ومجاعة، فخرج عمرو بن عبد مناف إلى الشام، فأمر بخبز كثير فخبز له فحمله في الغرائر (أوعية الطعام) على الإبل حتى وصل مكة، فهشم ذلك الخبز (يعني كسره وثرده) ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور أمام أهل مكة فأكلوا حتى شبعوا، فسُمّي بذلك: هاشما، (أي الذي هشم الخبز).
من بين ملايين المشاهد، عن الجوع في قطاع غزة في العام 2024، أتتني رسالة من فتاة في رام الله، تسأل "كيف نساعد؟" وتتحدث عن رسالة أرسلتها سيدة جاءتها الحرب وزوجها يتعالج من مرض عضال في القاهرة، وهي لا تطلب مساعدة، ولكنها تصف أن ابنها الصغير، حصل على صحن رز كبير وعليه قطع دجاج واحدة، تصف باكية سعادة ابنها، والفرحة في عينيه، وهو يخبرها كما لو كان قد وقف على مفترق طريق الطفولة الجائعة مع الرجولة. فهو أحضر للبيت طعاما، وهو جائع وهي قطعة دجاج واحدة. أكلت العائلة التي لم تحتج الطعام يوما قبل هذا، قليل من الأرز وزع على أفرادها، وتوزعت قطعة الدجاج. كأنها سمكات المسيح عليه السلام التي وزعها على شعبه، فكفتهم جميعا.
في منتصف الثمانينيات، كنت فتى في عمان، قرأت في صحيفة الرأي الأردنية، أن أهالي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، طلبوا فتوى لأكل لحم القطط والكلاب، بسبب الحصار الذي فرض على مخيماتهم من قبل أحزاب وقوى وأنظمة عربية. وقرأت في كتاب أن القطط (وليس الكلاب) في مخيمات صبرا وشاتيلا (1983)، كانت تنهش لحم الجثث المرمية؛ تأكلها. كانت هذه القصة مفترق غيرت مسار الحياة. لاحقا كتبت فصلا عنوانه "سفر الجوع الفلسطيني" في كتاب عنوانه "نجمة كنعان". وفيه ذكرت الروايات عن الجوع في لبنان، فيقول ممدوح نوفل، القائد العسكري الفلسطيني، أنه في مخيم برج البراجنة (منتصف الثمانينيات) "عقد اجتماع جماهيري في مسجد المخيم، وقرر الأهالي أكل لحم القطط والكلاب والحمير إن وجدت"، ورغم أن نوفل يعتقد أن ما حدث نوع من المبالغة هدفه لفت النظر للجوع حينها. وهو ما تتفق معه رواية الياس خوري (باب الشمس) ويعتبر الأمر اختراع من شخص اسمه عبد المعطي، لكنه يعكس شدة الجوع، ويروي كيف أن الخبر استفز صحافية لبنانية اسمها جميلة إبراهيم من مدينة زحلة، جاءت للمخيم بعد أن فك الحصار جزئيا عن المخيم، تحمل طنجرة برغل هائلة عليها اللحم والبصل والحمص، وعندما رأت جميلة التحلق حول طنجرتها قالت إنها خجلة من نفسها، وأنها لو عرفت أن عبد المعطي، سيدعو كل المخيم لطبخت أكثر. فرد عبد المعطي وفمه مليء بالبرغل، إنه سيكرر أعجوبة السمك، "ألم يوزع نبيكم خمس سمكات على آلاف الناس".
كتب كمال عدوان: هكذا بدأت المرحلة الأولى في أعقاب النكبة باستسلام وذهول عقدته أكثر سنوات الجوع الثلاث التي عانتها معسكرات التجميع، بحيث لم يعد شعبنا قادرا على التفكير المنظم المسؤول، وبقي يتابع الأخبار والحوادث التي يصنعها له غيره في العالم من حوله
كانت قصص الجوع في لبنان في الثمانينيات، ومجازر المخيمات بما فيها "صبرا وشاتيلا"، محطة تحول في سيرة كثير من أبناء ذلك الجيل، الذي سعوا إلى الانضمام للثورة وإلى فصائلها، لكن الوقت لم يسعفهم طويلا، فقد كانت الثورة في مفترق التحول لسلطة، كان يجب أن تأتي بدولة الخلاص، ولكنها لم تصل لشيء، ولم يجدوا الثورة ولم تأتِ الدولة، وعاد الجوع والدمار.
في سفر الجوع الفلسطيني، أن الجوع عم وطم بعد نكبة عام 1948، كل مكان. فيكتب فيصل حوراني مؤرخ الفكر السياسي الفلسطيني، عن سيرة عائلته في دمشق، "وقد صار علينا أن نقتصد في طعامنا فنتناول أقل ما يملأ المعدة، ينطبق هذا على الخبز، لم يعلن أحد صراحة، أن التقنين قائم، لكن الطريقة التي يقدم بها الطعام تجعل التقنين أمرا واقعا"، ويقول "أما الخبز، كان جدي يتولى توزيعه على أفراد الأسرة، يقطع الأرغفة ويضع أمام كل واحد منا قطعة. فنفهم دون توجيه، أن هذه الحصة التي لا ينبغي أن نتجاوزها".
ويوم كتبت "سفر الجوع" أرسل لي طبيب شهير، من عمان، يأتي عيادته مرضى القلب من دول مختلفة، كيف أنه عانى الجوع في مخيم اللاجئين الذي سكنه في طفولته، واسترسل يخبرني، أنّ عائلته كانت تأكل لكن اللحم كان يقدم في البيت يوم الجمعة فقط. مع ذلك كان يتمكن في الإجازات من الذهاب للمكتبة العامة وسط عمان، آنذاك. خمسة قروش يعطيها الوالد له، نصفها الأول "للسرفيس" للذهاب والثاني للإياب. في مرة في العطلة الشتوية رفضت أمينة المكتبة إدخاله، لأن الطين يغطي حذائه فاشترى بقرشين ونصف كيس مناديل صغير مسح فيها الحذاء، وعاد مشيا على الاقدام للبيت، عدة كيلومترات صعودا لجبل الحسين، تحت المطر. وهذا الطبيب فوجئ عندما انتقل للمدرسة الثانوية خارج المخيم، أن هناك من يأكلون اللحم أكثر من مرة أسبوعيا، وربما كل يوم. أصبح طبيا بارعا، ويذهب للمؤتمرات العالمية في العواصم الكبرى، ويهرب للمكتبات العامة هناك، يقرأ ويؤلف كتابا عن قريته الأصلية "بيت دجن". يوم كتبت سفر الجوع أرسل لي هذه القصة ثم قصص أصدقائه مع الطعام والجوع في المخيم.
سنوات الجوع الثلاث في غزة: تزخر الكتابات التي وصفت وضع ما صار يسمى قطاع غزة، بعد نكبة عام 1948، أن الأعوام الثلاث الأولى بعد "الهجرة" كما توصف في غزة، إلى المعسكرات (وهو الاسم الغزي للمخيمات)، بوصف الجوع الشديد في تلك السنوات الباردة. أحد الذين عاشوا تلك الأعوام، كمال عدوان، وقد كان يكثر من كتابة الرسائل لأصدقائه، وضمنها مشاهد الجوع، التي عاشها شخصيا. ومن ضمن ما كتبه لاحقا، "هكذا بدأت المرحلة الأولى في أعقاب النكبة باستسلام وذهول عقدته أكثر سنوات الجوع الثلاث التي عانتها معسكرات التجميع، بحيث لم يعد شعبنا قادرا على التفكير المنظم المسؤول، وبقي يتابع الأخبار والحوادث التي يصنعها له غيره في العالم من حوله". وكتب خالد الحسن في الموسوعة الفلسطينية "عاش الفلسطينيون في مخيمات اللاجئين في حالة من الجوع، إذا كان لم يصل إلى الموت فقد بلغ حدوده، وأصبحت مشكلة الأكل والمسكن والتعليم طاغية على تفكير رب العائلة الفلسطينية، وشكلت هاجسا مؤرقا على مدار الساعة من هذه الحياة/الميتة، أو الموت/الحي".
لن يغفر التاريخ، للعالم، مشاهد الجوع في غزة عامي 2023 و2024، التي وثقت أكثر من غيرها
تقول سجلات الصليب الأحمر إن عشرة أطفال كانوا يموتون في غزة يوميا نهاية عام 1948 وبداية عام 1949 بسبب نقص الطعام والبرد ونقص العناية، وتوفي أطفال كثيرون بسبب أمراض الأمعاء ونزلات البرد الرئوية. وعلى صعيد المأوى، كان كثيرون ينامون في المساجد والمدارس و"البركسات" والخيام، حيث يصعب توفير التدفئة والطعام.
أصبح كمال عدوان أحد أهم مؤسسي حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) لاحقا، واصفا مفترق الطرق بين الاستسلام للواقع والثورة. أصبح مهندس بترول، يتبرع بثلث راتبه في قطر، لبناء الثورة، وينفق مما بقي لتعليم ومساعدة أقاربه للحاق به في درب التعليم وإعادة البناء. وقام الشباب اللاجئ في غزة بإطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة.
لن يغفر التاريخ، للعالم، مشاهد الجوع في غزة عامي 2023 و2024، التي وثقت أكثر من غيرها، فالطفل الذي جاء لأمه بطبق الرز في قطعة الدجاج اليتيمة، سينتسب للرفض، وستكون هناك تداعيات بعد أن أصبح الجميع أمام مفترقات طرق.
غزة مدينة عريقة تجمع جموح البادية وارستقراطية المدينة العالمية الثرية الباذخة، تحولت مسرحاً للجوع والقتل، وهذه وصفة للثورة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.