شعار قسم مدونات

الإذاعة السودانية.. وقفة على أطلال المعنى

أمام مقر الإذاعة السودانية
مقر الإذاعة السودانية (مواقع التواصل الإجتماعي)

حين حان زمان تخرجنا من الجامعة قبيل منتصف ثمانينات القرن الماضي، كان فرضا على أي منا أن يختار موضوعا لبحث التخرج من كلية الآداب، قسم الصحافة والإعلام بجامعة أم درمان الإسلامية، وكان أن أخترت عنوانا لبحثي هو (دور الإذاعة في الوحدة الوطنية السودانية).

دلفت إلى المكتبة للتزود من معارف الإذاعة، ثم حملت أوراقي ويممت شطرها، لإجراء مقابلات البحث مع خبرائها، وكان مدخلي المرحوم الاستاذ محمد عبد الله عجيمي، الذي كان رئيسا لقسم الأخبار إن اسعفتني الذاكرة، وكان من أساطينها ومديرها في ذلك الوقت الأستاذ محمود أبو العزائم، ولم أجد حاجة إلى استزادة على ما قدم لي، كان أبو العزائم سعيدا بتلك المقابلة، وخرجت بحصيلة معرفية ومهنية، شعرت معها بأهمية الخطوة، وبحسن اختياري للبحث في هذا  الموضوع، غض النظر عن تفاصيل الأسئلة الإجابات فقد أودع ابو العزائم في خلدي، في تلك السن من العمر، وذلك الحظ من المعرفة، أن الإذاعة سيمفونية رائعة مضبوطة الإيقاع تعزف نغمة (السودان)، اللغة التي يتحدثها الناس في الريف والحضر هي لغة أم درمان، وما انتقلت لغة أم درمان إلا عبر الإذاعة، فالإذاعة هي التي صنعت الإطار الدلالي للسودانيين بتوحيد مفردة الخطاب، في زمان  شحت فيه وسائل الاتصال، تجد الراديو يصدح بكلمة أم درمان، ربما محمولا في مخلاة أحد البداة في بوادي السودان الوسيعة، أو ربما تجده في دكان يلتف حوله الناس، وغالبا للاستماع إلى الغناء الذي يجمع ربوع الوطن، ومن ذلك استوحى الأستاذ عبد المطلب الفحل عنوان برنامجه الجميل (دكان ود البصير) ليس فقط في السودان بل أن الإذاعة السودانية هي التي صنعت فضاء ثقافيا موحدا بين بلادنا وجوارها الأفريقي، ما جعل مطربي السودان، مطربين لتلك البلدان، سواء جوارنا الغربي أو الجنوبي  عبر القرن الأفريقي، فقد غدا أمرا دارجا أن تسمع فناني السودان ومغنيه، مثل وردي، أو عبد القادر سالم، أو سيد خليفة أو غيرهم يصدحون في أسواق تلك البلدان وكأنك في سوق حاضرة سودانية، بل أن الأثر امتد لمشاهدات كثيفة للدراما السودانية. فغدت الإذاعة روحاً تسري في الربوع السودانية، بل وجداناً يجتاز الحدود إلى فضاء أوسع شَكَّله السودان بصوتها لما سرى في آفاق بعيدة.

بالرغم مما يبدو أن التلفزيون أفضل حالة من الإذاعة من حيث هياكل المباني، إلا أن الخراب طال منظومته الفنية، فالأستوديوهات بدا لي أنها حطام وركام، فقد سقطت كاميرات السقف لتنضاف إلى أنقاض الأثاث

حين سارعت إلى الإذاعة بعد استعادتها من احتلال قوات الدعم السريع الذي استمر لأحد عشر شهرا بعد الحرب، وكانت مؤتمنة على حراستها قبل الحرب ، وجدتها كتلة ضخمة متفحمة، خربة ليست أكثر من أنقاض مكانٍ اختفت معالمه، وأنت تدلف إليها عبر بوابتها الكبيرة  تستقبلك آثار القصف، وقبيل مدخلها مجزرة لسيارات عديدة احترقت تماما، ولكنك أمام مبناها الرئيس، فلن تجد ما تقول غير إنه كان هنا مبنى اسمه الإذاعة، أصبح أثرا بعد عين، حطام، طال الفناء كل شيء فيه، المدخل ليس أكثر من كتل فحم، والمبني ليس أكثر من أطلال، ولن تجد بداخلها إلا أرضا محروقة، كتلا مسودة من أثاث، ومكانا حلكا، دكنا، سحما، لن تبصر بداخله  شيئا فأنت في كهف حالك، تنبعث منه رائحة الإتلاف المتعمد، والإفناء المستقصد. تلك المباني ولكن المعاني شيئا آخر، يتقالد الناس بمعرفة أو بغيرها، وتسيل الدموع فرحا ليس لاستعادة موقع كما بدا لي، بل لاكتشاف قيمة جديدة لهذا المكان، إذ بالرغم من احتمال ضياع مخزونها التاريخي من المواد المعنوية، فقد تجدد الشعور بأهميتها، وازداد إحساس الناس بدلالتها الثقافية، والوجدانية، فهي حقا مستودع معاني دولة 56، التي كان القضاء عليها من أهداف الحرب كما ظل يعلن ويردد الدعم السريع.

طفق الناس يجددون ذكرى مذيعيها، وبرامجها منذ النشأة، وهو أمر لم يحظ بهذا الاهتمام قبل حادثة الاحتلال، إلا عند أساطينها، من أمثال البروف على شمو، فبالرغم من تقلب البروف شمو في المواقع والمسؤوليات، مذيعا، ومديرا، ووزيرا، واستاذا جامعيا في خارج البلاد وداخلها الا إنه حين كتب مذكراته أختار لها عنوان (الإذاعة) فمن مسيرة طويلة من الأداء الممتاز والنجاح المهني والسياسي، تَخَيَّر الإذاعة لتكون حازمة هذه الحياة، ومحور دورانها.

تفقدت التلفزيون، وانا ابن كاره حرفة وصنعة، وبالرغم مما يبدو أنه أفضل حالة من الإذاعة من حيث هياكل المباني، إلا أن الخراب طال منظومته الفنية، فالأستوديوهات بدا لي أنها حطام وركام، فقد سقطت كاميرات السقف لتنضاف إلى أنقاض الأثاث، والمكان الكالح مدلهم ظليم لا يرى منه إلا القليل. وتعرضت مستودعات أشرطة الفيديوهات المختزنة لمواد قيمة إلى ركام في مواقع مفتوحة، تزروها الرياح والامطار، ولا يختلف الاهتمام بها عما يحدث لمستودعات الإطارات والحديد والوقود.

في زمن تراجعت فيه أهمية الإذاعات، حيث يمكن لكل فرد أن ينشأ إذاعته، وأصبحت إذاعات الدنيا وتلفزيوناتها وجامعاتها بين يدي المتلقي في هاتف.

إن كان واضحا مدى الأذى الذي حل بالإذاعة مظهرا ومخبرا، فإن المؤكد دمار البنية الفنية للتلفزيون، فلم تعد منظومات التصوير والمونتاج والبث قادرة على أداء مهمتها.

ولا زال ذهني مشغولا بسؤال أهمية الإذاعة  والتلفزيون لقوات الدعم السريع، للاستماتة فيهما، وقد سألت هذا السؤال في استوديوهات الجزيرة  لحظة اندلاع الحرب، وكانت إجابتي أن الإذاعة كانت الأداة الفعالة في مشروع أي  انقلاب في التاريخ السوداني الحديث باعتبارها الوسيلة الأوحد لنقل صوت الانقلابيين، ولكن لم يعد لهذا الدور أهمية بانفجار وسائل الاتصال، ولم تذع منها القوات المحتلة بيانا أو موقفا،  فلماذا الإصرار على أم الاذاعات، هل يستكن في خلد قادة الدعم السريع معني ثقافيا عميقا باعتبارها ذاكرة دولة 56، أم أن الموقف منها ليس أكثر من جري على تقاليد الانقلابات؟ ومهما يكن، فقد حازت الإذاعة باحتلالها، سمعة جعلتها في مقدمة الأيقونات الثقافية السودانية، فاتسع صيتها، وشاع ذكرها، وارتفع صوتها، في زمن تراجعت فيه أهمية الإذاعات، حيث يمكن لكل فرد أن ينشأ إذاعته، وأصبحت إذاعات الدنيا وتلفزيوناتها وجامعاتها بين يدي المتلقي في هاتف.

ومن وحي ما جرى، وشهدت به، أقترح إحالة إعادة بنائها إلى مشروع وطني، تجمع أمواله طوعا من جيوب الناس، للدلالة على قوة رمزيتها، فقد غدت تعبيراً عن روح الوطن، ومدار ما يجمعه من ثقافة وهوية. فالروح دلالة الحياة على وطن يأبى الفناء، ففيها المعاني التي نلتقي عليها، ونورثها للقادمين من ابنائنا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان