كنهر متدفق يحل رمضان على البشرية كل عام، عاملنا الله تعالى بفضله وكرمه وإحسانه.
استعرت وصف النهر المتدفق من هيرقليطس، الذي يستدعي مثال النهر، للإشارة إلى التغير المستمر، حيث لا يمكن دخول نفس النهر مرتين. إن الزمن عنده وصف لحركية دائمة غير ثابتة، كما هو عند أرسطو مقياس لهذه الحركية دال على عدد التغيرات التي تحدث في العالم.
في الوقت الذي تعاين حواسنا حجم الخراب الهائل والدمار العظيم في غزة، تعيش أرواحنا يقينا وأملا في الله تعالى بأنه سبحانه يصنع من هذه اللحظات سبيل انعتاق للبشرية من سطوة المادية وشرعة الغاب وغلبة الشر.
مقابل ذلك اعتبر آخرون الزمن وهما، والواقع ثابتا لا يتغير. كما اعتبره ديكارت امتدادا للمادة وأنه نفسه في جميع أنحاء العالم. واعتبره آخرون مجرد لعبة لغوية بعبارة جاك دريدا. وقالت بني كيل: كل من زاد، مات. عبارة تكتنف تصورا للزمن المتجدد على الدوام، لا يعود أبدا كما كان.
- هل الزمن وعاء مستقل عما يجري فينا من أحداث؟
- أم أنه صناعة أيدينا وأثر سلوكنا؟
لا أشك أن العدوان الجاري على غزة العزة المحاصرة، قلب الزمان رأسا على عقب، ولا أشك أن المشاعر والأفكار والثوابت زلزلت فيه زلزالها، تترادف عليها المتناقضات وتتعايش، ففي الوقت الذي تعاين حواسنا حجم الخراب الهائل والدمار العظيم، تعيش أرواحنا يقينا وأملا في الله تعالى بأنه سبحانه يصنع من هذه اللحظات سبيل انعتاق للبشرية من سطوة المادية وشرعة الغاب وغلبة الشر.
- على أي زمن نحمل الشعورين المتباينين؟ وأي زمن نعتمد مسبحا لهذه المعاني؟
- بأي حال عدت وتعود يا رمضان؟ وهل يعود رمضان نفسه؟ أم أننا بصدد رمضانات ممتدة متجددة؟ وهل لنا من رمضان شيء؟
- هل يأتي للناس جميعا، فرصة رحمة ومغفرة؟ أم أنه يصطفي من الخلق مباركين شهداء.. ويمنع عن آخرين؟ هل رمضان في غزة كما رمضان في غيرها؟
بعيدا عن هذا التأمل المتفلسف، ويا ما ولدت الأحداث فلسفة وأفكارا؛ يحضرني وصف للزمن رواه مرفوعا أبو نعيم في حليته، وروي عن الحسن البصري أيضا. يقول: " ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادى فيه: يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل عليك غدا شهيد، فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا. قال ويقول الليل مثل ذلك".
إذا اعتمدنا هذا التمثيل، جاز لنا أن نقول: رمضان شهيد. بالمعنى الذي يشهد فيه الزمن على عمل المبتلى بعيشه. وإنه لابتلاء أن يشهد عليك إلى جانب سمعك وبصرك ولسانك وأطرافك وأقدامك، الزمن الذي تعيشه وعاء لأعمالك.
قالت بني كيل: "لي فاتك بليلة فاتك بحيلة"، "كل من زاد مات"، "دير الخير تلقاه"..
لله دركم، أهل بادية بالمغرب غير نافعة على هامش التاريخ، تاريخ هيجل الحرية والعقلانية، وتاريخ العدالة وكرامة العيش، ما يزال آلاف منكم يعيشون بالخيام زمن الحر والقر! لله دركم، بقلوبكم نور وبركة -كان، قبل أن تعدو عليه عوادي تأثيرات السوشل ميديا وإعلام (الرب الثاني) بعبارة طوني شوارتز- تقدر لليلة ما قد ينجز في ظرفها من حيلة وعمل لها معه موعد أن تلقاه غدا منشورا.
لا يحب جل وعلا الظالمين من غيرهم ممن بدل وغير، إلا من استكره وقلبه مطمئن بالإيمان راسخ الموقف ثابت العهد.
رمضان مبارك بما يحمله من نسمات وأعطيات، شاهد وشهيد على سلوك شاهده، فمن شهد منكم الشهر فليصمه. يقتسم هذا الشهر الشاهد الشهيد مع الشهداء جذرا، هو وهم من أصل واحد، وجوه وإن تعددت بمعنى مشترك: الشهادة. وهو لهذا السبب بغزة الشهداء غيره بسواها، ولعله هذا العام خاص بهم دون سواهم. ولا سواهم في هذا الزمن إلا همل رعاعُ..
تختص غزة وأهلها اليوم بمعنى الشهادة في قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً".
- فهي الشاهدة على موقف الأحرار الأبرار ومواقف اللاهين الفجار، من كانوا للصهاينة أنصارا، أيصل غوثكم الصهاينة عبر الأردن لعبا وملذات فوق الحاجة ويموت الصبية بغزة جوعا؟
- وهي المستأمنة عند الشهيد علينا، صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله تعالى: "شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذيرًا" يوم يرد عن حوضه من يطمع في شفاعته: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فيقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي".
- وهي أرض المخلصين المتخذين من الله أحياء عند ربهم يرزقون، يطمئنها ربها ويواسي أهلها: "إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ".
لا يحب الله تعالى الظالمين ممن يلونكم المبدلين المغيرين ما شهدوه من حق يبغونها عوجا وهم شهداء "وما الله بغافل عما يعملون".
ولا يحب جل وعلا الظالمين من غيرهم ممن بدل وغير، إلا من استكره وقلبه مطمئن بالإيمان راسخ الموقف ثابت العهد.
وآخرين ينادي فيهم جل وعلا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ"، وإنه لنداء غزة لجميع المؤمنين في هذا الشهر أن يكونوا قوامين بالقسط قائمين بتنزيله وتنفيذه لا بمجرد وعيه وتعريفه، شهداء لله ولو على أنفسهم.
ما أحوجنا إلى إجابة نداء غزة شهادة لله على أنفسنا الخاملة أن تنبعث من رقاد، المهادنة أن تسري فيها عزة موقف، المفعول بها أن ترفع فاعلة عزيزة، الباحثة في رمضان عن أصناف المآكل أن يلهمها الله حياء، وذلك أضعف الإيمان.
مهما كان سلوكنا في هذا الشهر، لنعلم جميعا، أن رمضان غزة مبارك شهيد، تصرخ فينا كل لحظة منه، يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل عليك غدا شهيد، فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.