كأي فتاة تحلم بالزفاف وارتداء الفستان الأبيض، جهزت كل ما يلزم لهذه المناسبة، حجزت فستانا جميلا متباهية به، وكنت على ثقة مطلقة أنه سينال إعجاب كل من يراه. حجزنا أنا وخطيبي خالد القاعة، واعتنينا بالإضاءة وتنسيق الورود وغيرها من التفاصيل. أما المنزل الذي كان من المفترض أن نسكنه بحب، فاخترنا أثاثه وتصميمه وألوانه معا، بما يشبهنا ويشبه قصتنا.
ومن عاداتنا في قطاع غزة، بعد أن تجهز العروس ملابسها ومقتنياتها، تضعها في حقائب مزينة، وتأخذها إلى بيتها الجديد في حفلة متواضعة تدعو إليها المقربين ليشاركوها فرحتها. آنذاك طرزت لي أمي خمسة أثواب فلسطينية فلاحية ساحرة، وكنت متحمسة لأن يراها الجميع ويتأملوا ألوانها وأشكالها الجميلة. جهزت كل هذا بفرحة غامرة حتى جاءت الحرب الملعونة.
في اليوم الثالث للحرب أجبرنا الاحتلال على أن نخرج من بيوتنا لأنها أصبحت منطقة خطرة، نزحنا بالملابس التي علينا ليوم، ليومين، لأسبوع. وأخذنا مفاتيح بيتنا معنا على أمل العودة إليه، بيتنا الذي قصفه الاحتلال في أيار ٢٠٢٣، والذي أتممنا بناءه من جديد في بداية أكتوبر. بعد أسبوعين على الحرب ونحن خارج منزلنا قصف للمرة الثانية، وتحول لركام أسود.
أما ملابسي البهية فاحترقت جميعها، وأما الأثواب الفلسطينية الفلاحية فلم أجد لها أثرا، واختفى كل ما جهزته لهذا الزفاف. حزنت وقتها كثيرا لأني فقدت أشياء كانت ثمينة عندي وتعني لي الكثير، لكنني لم أكن أعلم أن القادم أقسى، فالبيت الذي جهزناه أنا وخالد معا قصف أيضا وسوي بالأرض، هذا البيت ما أجانا "بالسّاهل"، فقد كان حصيلة سنوات وشهور وأيام وليال طويلة سهرها خالد في مناوبات المستشفيات.
قتل المحتل بعض المدعوين أيضا، فأغلب الأصدقاء والأقارب استشهدوا في هذه الحرب، يبدو كلامي كرواية تراجيدية لفتاة سوداوية، لكن عيني التي كانت ترا كل الألوان وتميزها أصبحت لا ترى إلا الرمادي في الركام، والأبيض في الأكفان، والأحمر القاني في كل مكان.
وأما قاعة الأفراح فدمرت كليا، وأصبحت أثرا بعد عين، ومحل الفساتين احترق واحترق معه فستاني، ولم يعد هنالك شيء في المدينة يذكرنا بأفراحنا وأيامنا الحلوة، حتى أن صديقتنا المصورة روند التي وثقت يوم خطوبتنا بصورها المميزة واتفقنا معها لتصورنا في يوم الزفاف، استشهدت مع عائلتها، قتلها الاحتلال وقتل صور زفافنا. وكم كنت أود توثيق هذه اللحظات، وإذا بي أوثق ويلات الحرب، وأدون على منصتي الرقمية كل ما أرى وأسمع من معاناة لا يمكن وصفها.
قتل المحتل بعض المدعوين أيضا، وأغلب الأصدقاء والأقارب استشهدوا في هذه الحرب. يبدو كلامي كرواية تراجيدية لفتاة سوداوية، لكن عيني التي كانت ترى كل الألوان وتميزها أصبحت لا ترى إلا الرمادي في الركام، والأبيض في الأكفان، والأحمر القاني في كل مكان.
أمّا حبيبي خالد، فمنذ اندلاع العدوان كان يعمل بكل جهده وطاقته في مستشفى الشفاء، ولم يغادرها يوما إلى بيته، وبعد فترة فقد الاتصال بالجميع، وحاصر الاحتلال المستشفى بالكامل، وانقطعت أخباره، هل هو بخير أم لا؟ لم أفعل شيئا عدا الجلوس أمام قناة الجزيرة أتابع بحذر علي أرى صورته، أو ألمح عاجلا يهدئ روعي، لكن كل ما كنت أسمعه هو قتل الأطباء واعتقالهم والتنكيل بهم، دون ذكر أسمائهم. فتحولت من فتاة مقبلة على الحياة تنتظر فرحتها الكبرى، إلى فتاة يائسة تبكي طوال الوقت ولا ترتدي سوى اللون الأسود، فالبهجة التي كانت تملأ قلبي صارت حزنا يغطي المدينة.
بعد شهر من هذا العذاب، قصف منزل النزوح الذي كنا فيه، ونجونا من القتل بأعجوبة. لم أكن أريد الموت حينها قبل أن أسمع صوت خالد للمرة الأخيرة، وأخبره أنني أحبه كثيرا
هذه الأحداث الأليمة وقعت قبل نزوحنا من شمال القطاع، وكنت معرضة للموت في أي لحظة، مع الغارات الجنونية يوميا، وشعرت حينها أن الموت يلاحقنا كل ليلة. كنت أترك أهلي نياما والحمم تمطر البيوت، وأذهب أدعو الله وأرجوه، أنظر إلى السماء وأبكي، وتنهار كل القوة التي كنت أدعي امتلاكها في النهار، تذوب مع العتمة لتكشف عن قلب صغير ضعيف خائف لا يحتمل الحزن، كنت أخبر الله في كل يوم أنه أحن وأكرم علينا، وهو أعلم بما في صدورنا، يعلم خوفنا وضعفنا، أقول له بصوت خافت: يا رب أنت أعلم بي وأعلم بحالي، وأنت وحدك تعرف أنني لا أحتمل هذا الفقد، إذا أصاب خالد أي مكروه فإنني سأجن، يا رب لم أحب في حياتي أحد مثله، فكيف أعرف إن كان هو بخير أم لا؟ أعطني إشارة أرجوك يا إلهي. توالت الأيام نفسها، لا أحد يطمئن قلبي ولا أستطيع البوح أمامهم بالقلق الذي أعيشه، فالحزن كان جماعيا، لا يخصني وحدي، وكل من في المدينة أصابتهم الأحزان بشتى أصنافها.
بعد شهر من هذا العذاب، قصف منزل النزوح الذي كنا فيه، ونجونا من القتل بأعجوبة. لم أكن أريد الموت حينها قبل أن أسمع صوت خالد للمرة الأخيرة، وأخبره أنني أحبه كثيرا. دمر الشمال بالكامل ولم يبق لنا خيار سوى النزوح إلى الجنوب، وهذا كله دون أن يصلني نبأ عن خالد، وفي الطريق وعند الوصول إلى نقطة الجيش المرعبة وبعد المشي لأميال وأميال، وقفت بوجه شاحب من الجوع والمياه المتسخة والإرهاق، وقفت مختلة التوازن، بأكتاف مائلة وظهر منحن، وعندها أمرنا الجيش برفع هوياتنا، سحبت هويتي فرأيت صورة خالد التي كنت قد وضعتها بجانب صورتي الشخصية، لأبدأ بالبكاء قهرا مما عشناه من أيام عصيبة، راجية خبرا واحدا عن خالد يثلج صدري. ولكن لا جدوى.
تجاوزنا حاجز الموت المشؤوم ووصلنا إلى الجنوب منهكين، لأحاول بعدها تقفي أثر خالد، فلم أجد سوى خبر يفيد بإخلاء مشفى الشفاء ممن كان فيها، باستثناء مديرها محمد أبو سلمية وأربعة أطباء وعدد قليل من المرضى، فرحت يومها وقلت لا شك أن خالد بين أولئك الأطباء، اعتقدت ذلك لأنني أعرفه أكثر من نفسي، وقد أخبرني سابقا أنه حتى لو شارف على الموت فلن يغادر ويترك خلفه مريضا واحدا بحاجة اليه، وكنت واثقة أنه لم يتركهم
وبعد أيام عرفت أنني كنت على صواب، فما توقعته حدث بالضبط، وخالد كان من القلة القليلة الباقية في مجمع الشفاء الطبي. ورأيته بعدها بجسد نحيل حفرت فيه تجربة صامد عنيد مكث دون طعام أو شراب في وجه الاحتلال وتحقيقاته الوحشية؛ وكان الشاهد على المجازر والفقد دون أن يطبطب عليه أحد. وبفضلِ الله وحمده خسرنا ما خسرناه، لكن خالد ظل بخير، كان يشرب المحلول الطبي ليستجمع قواه ويوفي بعهده إلى المرضى، ويعود إلي، وهذا يكفي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.