شعار قسم مدونات

العرب من قبول الحكم العثماني إلى الرغبة في الانفصال

الحركة تسعى لقيام كيان قومي يضم مختلف الأقطار العربية، موحد الشعور والثقافة والأهداف والمصالح والجهاز السياسي والاقتصادي والعسكري (مواقع التواصل الاجتماعي)

بسطت السلطنة العثمانية نفوذها على أنحاء شاسعة من الأرض واستطاعت أن تقضي على الإمبراطورية البيزنطية، وأن تتوسع في أوروبا وآسيا وأفريقيا، وضمت معظم البلاد العربية إليها. وعاشت هذه الدولة أكثر من ستة قرون، حكم خلالها ستة وثلاثون سلطانا، وقد دخل العرب في حكم العثمانيين كونهم مسلمين مثلهم، والحكم العثماني الذي تأسس في هذه الصورة أصبح مألوفا في البلاد العربية، لطول أمده من ناحية، ولاكتسابه صفة الخلافة الإسلامية من ناحية أخرى، فقد كانت رابطة الدين أهم سبب جعل العرب يقبلون حكم العثمانيين الذين كانوا ينظرون إلى أنفسهم كورثة للخلافة الإسلامية بعد أن نجحوا في ضم الأراضي العربية ومكة والمدينة إلى إمبراطوريتهم في القرن السادس عشر، واتخذ السلطان العثماني لنفسه دور حامي العالم الإسلامي بأكمله.

ما زالت الجامعة الدينية هي الوحيدة التي كانت تجمع بين الترك والعرب والكرد والأرناؤوط والجركس وكل الأقوام الأخرى، ولولاها لكانت هذه السلطنة تفككت منذ قرون

عصران متمايزان

قسم المؤرخون حكم العثمانيين للبلاد العربية إلى عصرين متمايزين:

  • الأول: يمتد من القرن السادس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وفيه خضع العرب لأنظمة الحكم التي وضعت للولايات، وهي أنظمة تركت قدرا كبيرا من حرية التصرف للسلطات المحلية، وتميز الحكم فيها باللامركزية والبساطة والسطحية والمحافظة، وبهذا لا ينتظر أن يحدث هذا الحكم تغييرا جوهريا في نظم البلاد، أو حياة الناس في المجتمع، وفي هذه الفترة لم ترد على بال أحد فكرة الانفصال عن الدولة العثمانية.
  • الثاني: يمتد من أوائل القرن التاسع عشر، إلى حين جلاء العثمانيين عن البلاد العربية بعد الثورة العربية الكبرى، سنة 1918م، وفيه أصبحت المركزية الشديدة الرابطة التي ربطت الولايات العربية بالعاصمة العثمانية، وتكلفت الدولة أداء واجبات وتحمل مسؤوليات لا عهد للرعية بها من قبل، وصار الناس يشعرون بتدخل الدولة في شؤونهم أكثر فأكثر، وسجل هذا العصر بداية التنظيمات الإصلاحية المقتبسة عن النظم الغربية، والتي أحدثت انقلابا عظيما في الأمور الإدارية والقضائية، وأثرت تأثيرا عميقا في الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأدبية، وكان من نتائج ذلك أن شعرت الشعوب المنضوية تحت الحكم العثماني بضرورة الإصلاح، وجاء سوء الإدارة ليزيد الأمور تعقيدا، مما أدى إلى انقسام سكان السلطنة إلى أقوام شتى، وقامت الثورات في أجزاء السلطنة مطالبة بالإصلاح والتغيير لكن دون التفكير بالانفصال، فما زالت الجامعة الدينية هي الوحيدة التي كانت تجمع بين الترك والعرب والكرد والأرناؤوط والجركس وكل الأقوام الأخرى، ولولاها لكانت هذه السلطنة تفككت منذ قرون، لكن عندما تسلم الاتحاديون السلطة اختلف الأمر تماما، وبدأت الأصوات المطالبة بالانفصال تعلو شيئا فشيئا.

ثورة بطعم الاستبداد

عندما قامت الثورة في تركيا نفسها وتسلم الاتحاديون السلطة، استبشر العرب وغيرهم من الشعوب التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية بهذا الحكم الجديد، لأنهم اعتقدوا أنه سيحمل لهم الإصلاحات التي يريدون، وسيعطيهم حقوقهم في المشاركة في حكم البلاد، وحقوقهم في إبداء الرأي فيما يحصل في السلطنة، لكن الاتحاديين كانوا مستبدين لدرجة كبيرة، وسيطرت عليهم فكرة بعث القومية التركية، وإقصاء القوميات الأخرى، وبدأوا بإضفاء الطابع القومي، وتتريك دولتهم ومجتمعهم، فانتقلت الدولة من حاملة لمسؤولية العالم الإسلامي بما فيه من تنوع وقوميات ولغات إلى حكومة قومية، تنظر لباقي القوميات نظرة التبعية والسيطرة، وتسعى لتأكيد هذه السيطرة بفرض لغتها ومظاهر قوميتها مع إلغاء وإقصاء لكل ما عداها، وكرد فعل على هذه الحركة القومية التركية المقصية، وبتشجيع من الأوروبيين الطامعين بالسلطنة، قامت الدعوة العربية المطالبة بحقوق العرب، وكانت هذه الحركة تسعى لقيام كيان قومي يضم مختلف الأقطار العربية، موحد الشعور والثقافة والأهداف والمصالح والجهاز السياسي والاقتصادي والعسكري، ويكون من القوة ليضمن للأمة العربية الحرية والكرامة والسيادة. وبدأت تظهر إلى حيز الوجود الأفكار التي تناقش أحقية العرب في أن تكون لهم دولة مستقلة، تحفظ حقوقهم ولغتهم وتاريخهم، وظهرت أيضا الأفكار التي تبين أن الخلافة الإسلامية يجب أن تكون في العرب وحدهم دون سواهم لأنهم أهل الرسالة (حديث الأئمة من قريش). وهكذا بدأ التفكير والتحضير لقيام الثورة العربية، وانفصال العرب عن الترك، بتشجيع ودعم ومساندة غربية استعمارية.

عندما أعلن الدستور أيده العرب في محاولة منهم لنيل حقوقهم، فواصلوا المطالبة بالإصلاحات، إلا أن الحكام الجدد كانوا مع سلطة مركزية قومية حديثة، ولم يولوا قضايا الأمم التي تتشكل منها السلطنة أي اهتمام

أفكار الانفصال

  • رغم كل محاولات التتريك وبعث القومية التركية وإقصاء غيرها، يجب الانتباه إلى أن السواد الأعظم من العرب المسلمين كان ما يزال مرتبط بالدولة على علاتها، ولم يكن كثير منهم راغبا بالانفصال، لكن جماعات من المثقفين والمتنورين المتجددين كانت تنتقد أحوال الدولة، وتشتكي منها، وتدعو إلى تغييرها، وكان هؤلاء أنفسهم ينقسمون إلى:
  • جماعة تطالب بقيام خلافة عربية، حتى لو تطلب الأمر الانفصال عن السلطنة.
  • جماعة تطالب بإجراء إصلاحات سياسية وإدارية جدية في البلاد.
  • جماعة تشترك مع الأتراك بالدعوة إلى إصلاحات عامة تشمل جميع البلاد العثمانية.
  • جماعة تطالب بمراعاة حقوق العرب في مختلف شؤون الدولة، دون تفكير بالانفصال (محاضرات في نشوء الفكرة القومية، 123 ـ 131).

أخذت هذه التيارات تتصارع في مرحلة عصيبة على السلطنة العثمانية، لكن عندما أعلن الدستور أيده العرب في محاولة منهم لنيل حقوقهم، فواصلوا المطالبة بالإصلاحات، إلا أن الحكام الجدد كانوا مع سلطة مركزية قومية حديثة، ولم يولوا قضايا الأمم التي تتشكل منها السلطنة أي اهتمام، واستمروا بسياسة التتريك وقمع الحريات، وكانت المؤامرات الغربية والاستعمارية على السلطنة تزيدهم قناعة بخطر المساعي الانفصالية، فازداد قمعهم واستبدادهم وبطشهم، حتى خلعوا السلطان عبد الحميد نفسه، فكان لهذه الظروف مجتمعة تأثير كبير في انتقال العرب من قبول الحكم العثماني، إلى الرغبة في الانفصال عن الدولة العثمانية وتكوين كيان عربي موحد ومستقل، يضمن للعرب حقوقهم ويحفظ كيانهم.

الانقضاض على السلطنة

نلاحظ أن جميع التيارات في السلطنة وقتها كانت تتفق في أنها لم تكن ترى في الدولة ضوءا في آخر النفق يجعلها تسكت أو تغض النظر عما يجري من تجاوزات وأخطاء، فالوضع كان قد بلغ من السوء ما لا يمكن السكوت عنه، وهنا كان دور الدول الاستعمارية محوريا في تشجيع الأقوام والشعوب وخاصة العرب على الثورة والانفصال، وقد عملوا على تهيئة الظروف لتفكيك السلطنة وأكلها لقمة وراء لقمة، وبث العداوة والبغضاء بين القوميات الإسلامية، والتي تعمل العنصرية العمياء اليوم على تعميقها أكثر فأكثر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان