شعار قسم مدونات

غزة وطيور الحذر.. قراءة في رواية طيور الحذر لإبراهيم نصر الله

طائر السمان في شباك صيادي غزة (مواقع التواصل)

الإبداع هو تلك الزاوية التى يرى منها المُبدع كل الاشياء من حوله، وإبراهيم نصر الله يرى التاريخ من زوايا مختلفة مبهرة في وضوحها، ربما لا تعرف أن منها يمكن الرؤية، ثم تعتريك الدهشة فى روايات إبراهيم نصر الله، أنه يحاور التاريخ يستنطقه ولا يكتبه فحسب.

فى طيور الحذر نعيش الحدث عبر الأطفال، ويالها من زاوية، فالأطفال -عكس الصورة النمطية- هم مرآة قوية للحدث، بل هم الحدث نفسه، حيث يعبروا عنه بنقاء أكبر وعفوية أكثر من الكبار وإن لم يبدوا كذلك، وهذا ما نراه الآن في غزة، إذ يلعب الأطفال الدور الرئيسي في مأساة الظلم الواقع عليها، وفي رواية طيور الحذر تدخل عالم الاطفال وتتبع خطاهم، وحياتهم ومشاعرهم في ظروف قاسية واستثنائية تحيط بهم، فإذا بنا نغرق في مأساة الكبار، أو لنقل الملهاة كما يحب أن يسميها كاتبها، لأن المأساة حسب قوله تنتهي بالخسارة والقضية الفلسطينية لم تنته بعد ولا يمكن أن تنتهي بخسارة.

تبدأ الرواية بداية فنتازية مبهرة، لطفل واعٍ قبل الولادة، وهو فى بطن أمه، يروى ما يحدث فى الخارج، ويحاول أن يدفع نفسه للولادة، وهو بطل الرواية. الصغير كما يسميه النص، وسيظل الصغير حتى بعدما يكبر. في بيت هو عبارة عن غرفة واحدة نصفها مغارة ونصفها مبني من طين وقش ولد الصغير، ومنذ أن كان في بطن أمه وهو واقع في عشق صوت العصافير، وحين رآها سلبت لُبه طوال حياته، تلك الكائنات القادرة على الطيران والغناء.

يُسطر إبراهيم نصر الله في طيور الحذر مرارة اللجوء، الانتزاع من الجذور، أن تكون ذا شأن في وطن وبيت وتصبح لا شيء في أرضٍ غريبة ليست كأرضك، تشعر بتلك المرارة في حلقك التي ينقلها لك الكاتب عبر مشاعر شخصياته

تحكي الرواية عن فصل قاس من حياة الفلسطينيين، الشتات وألم المخيمات، قبل أن تصير مخيمات، ويتبع الكاتب الرحلة من أولها، النكبة والخروج الأول، وحلم العودة سريعا، لنصبح تدريجيا مع الأشخاص والحكايات، وقسوة العيش بلا وطن وبلا بيت، حتى صار المخيم مخيما من الوحدات الخرسانية، وطالت الحياة المؤقتة، وتثاقلت الآلام وتوالت الخيبات.

وفي ذلك المخيم، كان الأطفال يلعبون فى صيد العصافير، وحينما كبر الرضيع – بطل الرواية – وخرج للشارع حتى يلعب، أرتعب لهذا، وأخذ يتألم بشدة مع كل عصفور يسقط فى فخ الأولاد، حتى قرر أن يتعلم الصيد، وصار أبرع صياد بين الأولاد، لكنه تعلم الصيد لا ليصطاد الطيور بل ليعلمهم الحذر، فيصطاد العصافير قبل أن تقع في فخاخ الأولاد ثم يُطيرها، وبذلك يعلمها الحذر فلا تسقط فى الفخاخ مرة أخرى أبدا. وهذه خاصية تميز الطيور أنها إذا نجت من الفخ فإنها لا تسقط فيه مرة أخرى.

يُسطر إبراهيم نصر الله في طيور الحذر مرارة اللجوء، الانتزاع من الجذور، أن تكون ذا شأن في وطن وبيت وتصبح لا شيء في أرضٍ غريبة ليست كأرضك، تشعر بتلك المرارة في حلقك التي ينقلها لك الكاتب عبر مشاعر شخصياته، ومعاناتهم، تشبثهم بذلك الأمل النابض "نم يا ولد، نم، غدا ستتناول إفطارك في بيتك القديم في حيفا  مثلما جاء في النص.

الناس العاديون هنا هم الأبطال في النص، أطفال، ورجال وجدوا أنفسهم عاجزين، ونساء مدبرات ربات بيوت وأرامل، أناس مكلومون، ومتعبون يأملون بعودة سريعة للوطن. وبدقة من عايش الحدث بنفسه، وعبر سرد ساخر متحرر، مضحك أحيانا، يرغمك على الضحك والإبتسام، ومؤلم فى كثير من الأحيان، ومختلف تماما عن الأسلوب السردي المتبع فى روايات مشروع الملهاة الفلسطينية، ينقل الكاتب حياة المخيمات، حيث يتقاسم الجميع الانتظار، انتظار شيء ما ليحدث، ولا شيء يحدث سوى مزيد من الخيبات، ربما هذا الانتظار ولوعته هو الشيء المشترك بين كل من فقدوا ذواتهم واجتثت جذورهم.

على ما يبدو أن غزة تعلمت الحذر جيدا، فنراهم الآن صامدين رغم ظروف يعجز الإنسان عن تخيلها إذا ما أراد

عبر قصص لهؤلاء الناس، يُحكى التاريخ، وتنقله المشاعر، فتجد أن الكاتب تتبع سنوات عديدة منذ الخروج الأول عام 1948 وحتى هزيمة 1967، تتشابك الأحداث والآمال فتنقل صورة الوضع العربي بأسره في ذلك الوقت، فنرى الأمل العربى الذي تجسد في جمال عبد الناصر البطل الذي سيعيد الفلسطينيين لأرضهم ويمحو المُحتل، وهو ينكسر على صخرة الواقع.

"عبدالناصر عنده الظاهر.. عبدالناصر عنده القاهر" والظاهر والقاهر أسماء صواريخ مصرية تحدث عنها الإعلام فى هذا الوقت حسبما قال الكاتب في النص. ثم تأتى الهزيمة موجعة، لم يصدقها أحد.

كأن الكاتب في رمزية بديعة، أراد أن يعلم الناس الحذر، فمن يترك وطنه لا يعود إليها بسهولة أبدا، ربما لهذا خلقت النصوص الأدبية، لتعلمنا الحذر، تكشف لنا الواقع المأساوي الذي سيحدث إذا فعلنا كذا وكذا. فرواية طيور الحذر، تعلمنا الحذر من الوقوع مرة أخرى في الفخ، ربما أراد الكاتب أن يعلمنا الحذر مثل الطيور، وأن الصمود في الوطن مهما كانت كلفة هذا الصمود أهون بكثير من شتات لا نهائي، ومن تصديق لوعود كاذبة.

وعلى ما يبدو أن غزة تعلمت الحذر جيدا، فنراهم الآن صامدين رغم ظروف يعجز الإنسان عن تخيلها إذا ما أراد، فمع كل هذا الدمار الذي لحق في شمال القطاع، ومع انقطاع لكل مسببات الحياة، تظهر الإحصائيات أن قرابة مليون إنسان، صمدوا في ذلك الشمال المنكوب رغم قسوة الظروف.

حينما تنتهي من قرائة النص تقفز السؤال في رأسك: هل يطير الإنسان وإذا ما طار هل يتعلم الحذر يوما؟ وأنا أقول بعد إعادة قراءة تلك الرواية البديعة بعد أحداث السابع من أكتوبر: نعم يطير الإنسان إذا ما تعلم الحذر، فالحذر يحميه من الفخاخ، يعطي له حريته، تلك التي تتيح له الطيران.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان