زرت يوما عالم ديزني بباريس، كانت جولة من المتعة شاهدت خلالها ألوانا من الدهشة والإثارة، أفعوانيات وبهلوانات ومهرجانات وموسيقى وألعاب، عالم من الدهشة لا حد له، يتعرض له ملايين من الناس يتوافدون على مدينة العجائب.
يومها، كتبت أن دعوة الناس والتأثير فيهم بحاجة أكيدة إلى مثل هذه الأدوات. من يحسب أنه يبلغ الناس رسالة بكلمات ركيكة لفظا باردة معنى فإنما يجني على رسالته. سيظل خارج الاعتبار سوى عند زمرة من الناس قليل ما هم، في عصر يغمره سيل مستمر من التأثيرات المتزايدة في الأنواع والدرجات.
تتعرض القلوب الغضة والعقول الطرية لقصف هائل وقنبلة مدمرة. هذا الطوفان المستمر من اللهو وسيل المعلومات وإيحاءات الإقناع والتلاعب والتوجيه، جعل القدرات الإدراكية أكثر تعرضا للتأثير الخارجي، مما يجعل من الصعب بل من المستحيل أحيانا، التمييز بين الحقيقة والخطأ، بين الشر والخير، بين الحق والباطل.
هل يحلو لهو بأي درجة كان وبأي تأثر مهما قل، وطوفان غزة يجتاح الأرواح؟ وهل تسلم روح من شتات، إن لم تقدر واجب اللحظة، وتحتفظ بأقل الإيمان، إنكار المنكر قلبيا؟
فسهل أن ترمي ملايين الشباب اليوم بالغثائية واتباع اللهو والارتماء في أحضان الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، في عالم " فوق واقعي" كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي جون بوديار، في عالم من "القوة الرمزية" بعبارة البريطاني ستيوارت هيل، الذي يجادل أن المعاني ليست متأصلة في الأشياء والأحداث، بل تتم صناعتها (وصناعة الأخلاق) عبر تفاعل معقد بين المؤثرات الاجتماعية والثقافية والسياسية. تصبح هذه الوسائط الرمزية وسيلتنا لتشكيل التصورات وفهم العالم، وتؤثر على سلوكنا ومواقفنا تجاهه.
تضاءلت بشكل هائل الأساليب التقليدية للتأثير، فلا تجدي الموعظة إلا يسيرا، ولا حتى القدوة التي لا تستمد من أسباب "التسويق والدعاية" أساليب عمل وفن تأثير. لا تجدي الموعظة العزلاء، ولا المنطق، إنما تقنع الصورة، والصوت، وما يؤلف منهما من رسالة مبرمجة، مدروسة، لتتسلل إلى أعماق النفس، فتحدث فيها الانفعال المطلوب، من رجة غضب، أو هبة إقبال وقبول، أو نفرة كره وتقذر. ووالد يبكي بنيه محوقلا أن " ضاعوا". يحدثه حرصه أن يغادر العالم بما فيه ومن فيه، يكسر الأجهزة ويصعد إلى جبل، يظل فيه سجان أهله وبنيه، وأنى له.
يشير عالم الاجتماع الأميركي فيليب زيمباردو إلى علة هذه التحولات العميقة وسببها: تقلص الانتباه في عالم من المعلومات الزائدة وطوفان من الإلهاء المستمر، وتآكل مهارات التفكير النقدي.
لقد أصبحنا جميعا برغم ما نزعم من اتزان أكثر عرضة للإغراء والتلاعب العاطفي. وجدتُني يوما أقفزُ من أريكتي قفزا، متفاعلا مع محاولة هجوم ضائعة.. لست من دعاة "تجريم" اللهو وتحريمه، مثلما قد يدعو صادق غر، يحسب أن الحل ممكن ضربة لازم. وأن للنفس حظا، لكن الأزمة في الاتزان. الأزمة فيما يقود إليه اللهو ساعة الجد من خراب على ميزان الحق. هل يحلو لهو بأي درجة كان وبأي تأثر مهما قل، وطوفان غزة يجتاح الأرواح؟ وهل تسلم روح من شتات، إن لم تقدر واجب اللحظة، وتحتفظ بأقل الإيمان، إنكار المنكر قلبيا؟
لا يحلو للنبيه طعام حلال من الله، على مائدة تقصفها مشاهد موت الصغار والكبار جوعا. فهل تحلو وهل تحل دقيقة مشاهدة بطولة كرة قدم ترصد لها الميزانيات لفتا للأنظار وصرفا للأبصار؟
رسالة المقال تقصد بالأساس أولئك الذين ما زالوا متشبثين بالأدوات القديمة للتأثير. إنكم تخوضون معركة خاسرة، لأن الحجم الهائل والتطور الشديد للتأثيرات الحالية يتطلب نهجا أكثر دقة وتعددا في أدوات الاتصال والإقناع
لطالما استخدمت استراتيجيات الإلهاء عبر التاريخ لإبقاء الجمهور لاهيا ونقله إلى عوالم "فوق واقعية"، منذ عروض المسرح اليوناني القديمة ومواجهة العبيد والأسود إلى أجواء كرة القدم المثيرة. حيث يساهم تحرك الكرة المستمر وطبيعة اللعب غير المتوقع وتداخل معاني الوطنية والانتماء والتنافس في العرض المثير، مما يبقي المتفرجين مشدوهين لا يغفلون ثانية، ولذلك ليس غريبا أن يحرص المنظمون ألا يتسلل إلى المشاهد منظر علم فلسطين أو لافتة تضامن مع غزة. قد تخطف الثانية ضمن مجموع المشاهد البصرية الأنظار.
يعتقد الحكيم تشومسكي أن الإلهاء إستراتيجية متعمدة يتبعها من هم في السلطة للحفاظ على السيطرة ومنع التغيير الحقيقي، بإبقاء انتباه الجمهور موجها إلى أمور سطحية، تقل معه احتمالية تساؤل الناس عن الأمور الأعمق. لم يعرف العالم كله رسالة أعمق من طوفان غزة. فوجب في تقدير سحرة الإلهاء، إخراج لعبة سحرية ومقابلة طوفان غزة وهو بدوره لحظة "فوق واقعية" في الاتجاه الإيجابي، انكشفت فيها الحيل وبارت وانتبهت الأرواح من سبات عميق، بطوفان من الإلهاء واللهو مماثل في الدرجة والأثر، وإن العاقل ليتوقع أن يخرج السحرة من القبعات بعد الكرة سحرا آخر . والله عليم حكيم.
إنها "وصفة لكارثة" بتعبير تشومسكي، يتم من خلالها "صناعة إجماع" بالسيطرة على آراء الجمهور والحفاظ على الوضع القائم بالتعاون مع وسائل الإعلام ومجموعة متنوعة من الوسائل، بما في ذلك الترفيه والرياضة والأخبار المثيرة. ليس غريبا أن يتبنى الفسدة الترفيه سياسة، ينفض إليها من الجادة الناس. والله خبير بما تعملون.
لا يقلق مؤمن سوى من لحظة الإلهاء أن تكون امتحانا يسقط فيه، وإن له في "أبوء بذنبي" شفاء ودواء، وفي "إن لنفسك عليك حقا" سعة، لكن رسالة المقال تقصد بالأساس أولئك الذين ما زالوا متشبثين بالأدوات القديمة للتأثير. إنكم تخوضون معركة خاسرة، لأن الحجم الهائل والتطور الشديد للتأثيرات الحالية يتطلب نهجا أكثر دقة وتعددا في أدوات الاتصال والإقناع، وإستراتيجيات تتناسب مع جمهور غائص في عالم "فوق واقعي". بشرتنا غزة كعادتها في سوق البشريات، أن "الروح" أسرع في التأثير وأنفذ، وأن الجهد إن سقي عزيمة وإرادة أثمر، وأن الأسباب تدرك، ومن طلب العلا سهر، ومن رام التأثير أبدع، وإلا فإن السهول الواطئة مرتع للغثاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.