منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، ولأكثر من مئة يوم لم تجرؤ دولة عربية واحدة، لاسيما من دول الطوق المحيطة بالكيان الصهيوني على اتخاذ خطوة ملموسة من شأنها القيام بأي عمل عدائي ضد "إسرائيل" والتزمت الدول العربية ببيانات الشجب والإدانة والاستنكار والدعوات للقمم والمنّ بقراراتها ومحاولات العمل بجهود متواضعة على تنفيذ جزء بسيط من قراراتها التي لا تحتمل التأويل بأن تكون صاحبة أي شقّ عدائي أو مجرد التلويح بخطوات ربما تُفسّر بأنها ملموسة ضد الكيان الصهيوني الذي يخوض حرب إبادة متواصلة ضد غزة منذ السابع من أكتوبر.
لم ينجح في كسر العزلة العربية إلا فواعل من غير الدولة، حركات وأحزاب ترفع شعارات المقاومة، تجمعات وحركات ليس لها من "الشرعية الدولية" نصيب، ولا تعتبر فاعلًا يحظى بتمثيل في المنظمات الدولية أو كرسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة
ولم تنجح الدول العربية -على الأقل- في تمرير المساعدات المكدسة على أراضٍ عربية خالصة، كاملة السيادة شكليًا وقانونيًا، إلى الجانب الآخر الفلسطيني من معبر رفح، بدعوى الافتقار إلى التنسيق، وعدم الحصول على موافقات، أو الخوف من القصف الصهيوني في علامة ضعف واضحة، رغم ادّعاء الجانبين أن كل منهما ليس مسؤولًا عن عدم إدخال المساعدات!
وفي حين بقيت الدول العربية صاحبة حكومات مكبّلة عاجزة غير قادرة على إدخال شربة ماء للقطاع المحاصر دون إذن الاحتلال. لم تستطع الدول العربية مجتمعة أو فرادى العدول عن نموذج الإذعان التام للمجتمع الدولي، ولكتلته الغربية على رأسها الولايات المتحدة، ولم تحرك ساكنًا في نمط علاقاتها معها مجتمعة، ولم تتصرف كدول مستقلة أصلًا، مما بات واضحًا بأن الدول العربية ككيانات لها صفة السيادة والاستقلال، ضعيفة لدرجة الوهن أمام الغرب ومؤسساته، وغير قادرة على التصرّف ككتلة موحدة، وغير قادرة على القيام بعمل عدائي "واحد" ضد الكيان الصهيوني المستشري في قلبها، في حين لم تخرج دولة عربية واحدة عن النسق او حاولت التصرف بشكل فردي لتكبلّها بقيود المجتمع الدولي أو الهجمة الغربية المحتملة عليها، والتي ستلقى مساعدة من خصومها العرب بالطبع!
لم ينجح في كسر العزلة العربية إلا فواعل من غير الدولة، حركات وأحزاب ترفع شعارات المقاومة، تجمعات وحركات ليس لها من "الشرعية الدولية" نصيب، ولا تعتبر فاعلًا يحظى بتمثيل في المنظمات الدولية أو كرسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو صفة رسمية أمام الأسرة الدولية. نجحت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي من قلب قطاع غزة المحاصر في تنفيذ عملية السابع من أكتوبر ببراعة، وهما فاعلان من دون الدولة، بل معزولان عالميًا بفعل التصنيفات والعقوبات الآتية من الغرب أساسًا، ولم يحظَ أي منهما بدعم عربي رسمي منذ عشر سنوات تقريبًا، بل وسبق أن صنّفتهم دولًا "عربية" خلال العقد الأخير كحركات إرهابية، وأطلقت عليها إعلامها الموجه بشكل منظم بالإشاعات وكيل الاتهامات حتى إبان حرب الإبادة هذه!
إضافة إلى ما سبق، ساندت عملية السابع من أكتوبر فواعل من دون الدولة، تتمتع بذات التضييقات، والتصنيفات، والمواجهات، التي وصلت إلى شنّ الحروب عليها من دول عربية أخرى، كحزب الله في جنوب لبنان، وجماعة أنصار الله "الحوثي" في اليمن، وحركات المقاومة الإسلامية في العراق، التي يُختذل النظر إليها بسخافة على أنها أذرع إيرانية وفقط دون النظر إلى نشأتها وتحالافتها ودينامياتها الداخلية وتفاعلاتها الخارجية، وهي نظرة ركيكة مجتزأة تحاول إضفاء طابع السحرية على الدور الإيراني في الدول العربية وهو ما ينقضه تحركاتها المتباطئة منذ 100 يوم. ولما أقامت دول غربية تحالفًا كي جماعة "الحوثي" في اليمن منطلقًا من قواعد عسكرية أمريكية منشأة في دول عربية، لم تساندها دولة عربية واحدة، زيادة وإمعانًا في الضعف والهشاشة التي يتصف بها نموذج الدولة العربية بشكله الحالي.
بدى واضحًا أن الدولة العربية بأشكال حكم مختلفة، وخلفيات استعمارية متباينة غير قادرة على معاداة آخر مستعمر في العالم، لاسيما دول الطوق التي لم تحرّك ساكنًا من قطعها العسكرية المصطفة على الحدود.
بمقارنة بسيطة بين ردة فعل الدولة في مقابل الفواعل غير الرسمية من دون الدولة، يصبح أمام مقارنة بين أفعال الأنمة الرسمية ذات الشرعية الدولية وبين حركات المقاومة التي تجابه عزلة دولة رسمية ووسمًا بالإرهاب، لذا يمكننا القول أن الدول العربية كمنوذج تطور وتشكّل منذ القرن الماضي عبر مراحل تطورية بعد استعمارية post colonial، لم يستطع -بمواقف مختلفة- أن يُقدم على عمل عدائي واحد ضد "إسرائيل" وحُيّدت بمرور الزمن أكبر دولة عربية وصاحبة التاريخ الأطول في الصراع مع إسرائيل عن أي معركة، حتى المعارك الدبلوماسية منها! ولم تظهر بأي موقف عدائي وبات أن مصر في اكثر عصور الضعف حاليًا مقارنة بمواقف متواضعة أبدتها حيال القضية الفلسطينية قبل ثورة يناير مثلًا، وحروب خاضتها خرجت منها بنتائج متباينة.
بناء على ما سبق، يمكن الاستنتاج بأن الدولة العربية لم تفِ بإحدى أغراض تأسيسها، وهو حماية الأمن القومي العربي، وإحلال سيادتها، والتخلص من سطوة الاستعمار الذي أعاد صياغة نفسه بأشكال مختلفة، منها اقتصادية أوالتحالف مع النخب الحاكمة في جلّ البلدان العربية بطريقة لا تُثبت سوى أن التبعية للمستعمر مازالت قائمة! كذلك بدى واضحًا أن الدولة العربية بأشكال حكم مختلفة، وخلفيات استعمارية متباينة غير قادرة على معاداة آخر مستعمر في العالم، لاسيما دول الطوق التي لم تحرّك ساكنًا من قطعها العسكرية المصطفة على الحدود.
ليس العجز عن القيام بعمل عدائي ضد "إسرائيل" ناجم عن عدم القدرة على تنفيذ عمل عسكري مثلًا، فدول عربية قد غزت دولًا أخرى في العقود الأخيرة بالفعل، وعدد أكبر قد هدد بكل صراحة بنيته غزو دولة عربية مجاورة له إن لم تذعن لمطالبه، وقَطَع علاقاته معها، وحاصرها لبضع سنوات. وليس العجز والوهن ناجم عن عدم القدرة على تمرير الدعم لحركات أو فواعل من دون الدولة، فهناك دول عربية قد موّلت وتموّل حروبًا أهلية، وانقلابات عسكرية، وحركات انفصالية في دول عربية أخرى دون أن يهتز لها جفن!
سيكون السابع من أكتوبر وما تلاه من ردود فعل عربية على المستوي الرسمي وما صاحبها من عجز وتخاذل تاريخًا مهمًا لفشل النموذج الحالي للدولة العربية أيًا كان شكل الحكم فيها
الدول العربية بنموذجها الحالي الذي يحسبه البعض قد ترسّخ هي فاشلة بامتياز، فهي لا تعبر عن نظام إقليمي موحد، بأي شكل من الأشكال، ولا تعتبر لنظريات الأمن القومي الإقليمي بأي طريقة مذ غزت دولٌ عربية دولًا جارة لها! وجزأت أمنها القومي حينما تحالفت مع الجيب الاستعماري الأخير في العالم، ولم تقدر على هزّ العلاقات الدبلوماسية والتحالفات العسكرية معه، حتى إبان حرب الإبادة المستمرة، وحين ظهرت "الدولة العربية" كنموذج عاجز على إيقاف الإبادة بأي طريقة كانت!
رغم ذلك كانت الثورات العربية بموجاتها، تعبير عن رفض فشل الدولة العربية ومحاولة لصياغتها بشكل جديد غير خاضع للقوى الغربية، فمن غير المستغرب أن القوى التي تحالفت ضد الثورات العربية ورغبات الشعوب العربية في دولة ديمقراطية ذات سيادة، والأنظمة التي أفرزتها الثورات المضادة، هي الصفّ الأول في التحالف مع "إسرائيل" أو هي القوى الضعيفة غير القادرة على القيام بعمل عدائي واحد ضد "إسرائيل" التي ترتكب أفظع جرائم القرن ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
سيكون السابع من أكتوبر وما تلاه من ردود فعل عربية على المستوي الرسمي وما صاحبها من عجز وتخاذل تاريخًا مهمًا لفشل النموذج الحالي للدولة العربية أيًا كان شكل الحكم فيها، ولاسيما دول الطوق التي أثبتت عجزًا عميقًا عن مجرد التلويح بخطوات عدائية أو رادعة تجاه "إسرائيل" حتى قام بهذا الدور فواعل من دون الدولة أبلت ما لم تستطع الدولة فعله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.