يحتفي العالم كل عام، في الحادي عشر من شهر فبراير، بدور النساء والفتيات في ميدان العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، والذي يعتبر محل انتقاد من قبل البعض، كمشهد مبالغ فيه، وفرصة للحركات النسوية لإعادة طرح فكرة هيمنة الثقافة الذكورية ورفع شعار المساواة بين الجنسين بشكل أقوى، وهؤلاء الأشخاص -دعاة المساواة-مخطئون؛ فالنساء لا يتعرضن للتمييز بسبب جنسهن بقدر ما يتعرضن له بسبب عرقهن، أو أصلهن العرقي، أو إعاقتهن، أو توجهاتهن الفكرية والأيديولوجية، وكذا فقر بيئتهن. بينما يراه البعض الآخر فرصة لزيادة الوعي بما يمكن تحقيقه إذا تم تفكيك الحواجز وتشجيع النساء والفتيات على المشاركة الفاعلة في المجتمع المدني.
على الرغم من الإنجازات العديدة التي حققتها النساء، إلا أنهن يظللن تحت تمثيل غير كاف في ميدان العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات عالميا، ويشكلن أقلية في طلاب التعليم وفي ميادين العملية. ولا يمكننا إنكار ميل الناس لوضع القدوة في كل سبيل يقصدونه. وهم الكمال الذي ينسجونه ليسقطوه على الأشخاص بحثا عمن يهديهم السلوى، ليتوارى الجهل بالسبيل شيئا فشيئا وتتشكل ملامح الذات، كمن يفتش عن أشباهه بين السطور.
أسماء حين تتبدى لك ترفعك فوق التفاصيل، لتتجاوز بك منطق إبصار وفهم السنن السارية إلى القدرة على الاستشراف، التغيير وضبط المسار والاحتفاء بالقيم، فقراءة التاريخ لا تعني الاعتكاف بين طياته وترك الحاضر، بل هي إحياء للمعنى واستعادة للوجهة والقبلة
ولو نظر المتفكر في كتب التاريخ لوجد لكل حيرة رشاد، تاريخ حافل ساهمت في بناء حضارته الرجال وكذا النساء دون تهميش، بعضهن برزن في العلوم والطب والرياضيات، وأخريات أثبتن حكمتهن في الأدب والفلسفة. منهن من خلدت انتصاراتها في سجلات التاريخ ومنهن من تعرضت لفشل ذريع، لكنهن استطعن إثبات قدرتهن على المشاركة الفاعلة في المجتمع المدني، ولم ينتظرن في سبيل ذلك جزاء ولا شكورا، فأن تقدم الواحدة منهن على اقتحام الساحات وتحدي العقبات -مهما كان المجال الذي تستهدفه- فذلك في حد ذاته إنجاز يحسب لها، خصوصا في تلك الفترات التي لم تكن النساء يتمتعن فيها بنفس الحريات التي يمتلكنها الآن، حين كان مجرد الخروج من الفضاء الموكول إليهن مجازفة تتطلب الكثير من الشجاعة والثبات، والبحث في سيرهن والنظر في أحوالهن بوصلة طريق لكل تائه. رموز وأسماء لنساء بلغن شأوا بعيدا، مسلمات كن أو غير مسلمات، أسماء حين تتبدى لك ترفعك فوق التفاصيل، لتتجاوز بك منطق إبصار وفهم السنن السارية إلى القدرة على الاستشراف، التغيير وضبط المسار والاحتفاء بالقيم، فقراءة التاريخ لا تعني الاعتكاف بين طياته وترك الحاضر، بل هي إحياء للمعنى واستعادة للوجهة والقبلة. ويمكنني ذكر منهن:
لبنى القرطبية: العالمة المعلمة، التي نبغت خاصة في مجال الرياضيات لحلها أصعب المعادلات الرياضية، وكانت نحوية وشاعرة عروضية، بصيرة بالحساب، عملت في تدوين وترجمة الكتب في مكتبة الخليفة الحكم الثاني بمدينة الزهراء، لكنها لم تكتف بالنقل الحرفي بل كانت تصحح ما يرد في الكتب من أخطاء وتضيف عليها من واسع علمها، فتحولت من مجرد أمة إسبانية مملوكة إلى سيدة حرة يسند الخليفة إليها التوقيع عنه لشدة ثقته بها وبرجاحة عقلها، كما اهتمت بتعليم الأطفال الحساب وجداول الضرب.
ستيتة البغدادية: عالمة، بارزة في الرياضيات والحساب وعلم الجبر، فتركت خلفها حلول كثيرة لمسائل صعبة وحلول مبتكرة لبعض المعادلات الرياضية، وقد كان القاضي يستعين بها كشاهد علمي في محاكم بغداد، حيث كانوا يستخدمون الرياضيات لحل القضايا المستعصية (التي تتعلق بالبناء مثلا). كما كانت فقيهة على المذهب الشافعي.
رفيدة الأسلمية: كانت -رضي الله عنها-أول ممرضة في التاريخ العربي والإسلامي، ولشدة ما استهوتها حرفة التمريض والجراحة راحت تنفق على عملها هذا من حر مالها فقد كانت ذات ثروة واسعة، وظهرت خيمتها كأول مشفى ميداني بداية في غزوة أُحد ثم رافقت النبي في غزواته، فشهدت غزوتي الخندق وخيبر، ولم تتوقف عند هذا بل نقلت علمها إلى النساء من حولها ودربتهن ليصبحن ممرضات يساعدنها في رعاية المرضى، ومن بينهن السيدة عائشة رضي الله عنها. ولبراعتها أمر النبي بأن تقام لها خيمة خاصة في المسجد النبوي كمستشفى لعلاج المرضى والمصابين. كما عملت كأخصائية اجتماعية تعالج المشاكل النفسية للجنود بعد الغزوات.
الشفاء بنت عبد الله العدوية: اسمها "ليلى"، واشتهرت برجاحة عقلها وحبها للعلم وانكبابها عليه، ومن النساء اللواتي أسلمن قبل الهجرة، ولقبت بالشفاء لكونها برعت في الطب والرقية، فكانت ترقي في الجاهلية من داء يسمى "النملة" وهو مرض جلدي يصيب الإنسان بقروح يشعر معها وكأن نملة تدب على جسده وتعضه، ثم امتنعت عن ذلك بعد إسلامها، حتى أذن لها الرسول -عليه الصلاة والسلام- بذلك بعدما استعرضتها عليه، ويروى عنها أنها قالت: "دَخَلَ عَلَيّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ (زوجة النبيّ) فقال لي: ألاَ تُعَلّمِينَ هَذِهِ -يعني حفصة-رُقْيَةَ النّمْلَةِ كَمَا عَلّمْتِيها الْكِتَابَةَ"، وإلى جانب الطب برعت الشفاء في الكتابة منذ الجاهلية، فتتلمذت على يديها الكثير من الصحابيات وعلى رأسهن حفصة -رضوان الله عليها-زوجة النبي، وكانت بذلك أول معلمة في الإسلام.
لطالما كانت ميادين العلوم، على اختلافها، مساحة استرخاء عجيبة تنسيني نفسي، وتسلب لبي، وكأنني أدرسُ كتابا يتناغم فنيا بين الكون اللامتناهي والرياضيات المعمقة، وليس هذا الأمر بجديد؛ بل له تاريخ ومواقف وقراءات.
آدا لوفليس: في سن السابعة عشر، قابلت "تشارلز باباج" الملقب بأب الحاسوب ونهلت من علمه، وأدى باباج بكبر سنه وخبرته الطويلة دور الناصح والمستشار لها، وبدأت، عن طريقه، بدراسة الرياضيات المتقدمة. فاجتذبتها أفكار باباج حول محرك الفرق والمحرك التحليلي، الذي كان معنيا بأداء الحسابات الرياضية الأكثر تعقيدا. طلب من آدا ترجمة مقالة علمية حول المحرك التحليلي لباباج، لكنها لم تكتف بالترجمة بل أضافت أفكارها، واقترحت نظرية لطريقة تسمح للمحرك بتكرار عدد من التعليمات بعملية تعرف باسم الحلقات وتستخدمها برمجيات الحواسيب اليوم، ووصل طول ملاحظاتها إلى ثلاثة أضعاف المقالة الأصلية، لينشر عملها في دورية العلوم الإنكليزية، تحت اسم "A.A.L.". مما يجعلها ربما أول مبرمجة حاسوب بسبب تلك الأفكار المتقدمة لعصرها.
شيرلي آن جاكسون: هي فيزيائية نووية وعالمة في مجال الفيزياء النظرية وأول امرأة أميركية من أصل أفريقي تحصل على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وقد قدمت مساهمات كبيرة في مجال فيزياء المادة المكثفة. وشغلت العديد من المناصب، بما في ذلك رئاسة جامعة رينسيلاير. كما تم تعيينها لاحقا كرئيسة للهيئة النووية الأمريكية، وساهمت في تشكيل السياسات المتعلقة بالأمان النووي.
جينيفر دودنا: عالمة الكيمياء الحيوية اختصت في علم الجينات حيث شاركت بشكل بارز في اكتشاف تقنية تحرير الجينات المعروفة بـ CRISPR-Cas9، وهي تقنية ثورية في مجال البيولوجيا الجزيئية. ما جعلها تحصل بالتعاون مع زملائها في البحث، على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020، هذا الاكتشاف غيّر بشكل جذري المنهجيات المستخدمة في التلاعب الجيني وأثر بشكل كبير على البحث الطبي والزراعي.
لطالما كانت ميادين العلوم، على اختلافها، مساحة استرخاء عجيبة تنسيني نفسي، وتسلب لبي، وكأنني أدرسُ كتابا يتناغم فنيا بين الكون اللامتناهي والرياضيات المعمقة، وليس هذا الأمر بجديد؛ بل له تاريخ ومواقف وقراءات. أما حالتي إزاء الفيزياء كمنصة انطلاق لفهم العالم من حولي تتماثل مع حالة طفل يكتشف العالم بذات الدهشة الأولى، كأني أسير فيها على خطوط تمثيل فاينمان، مع كل سهم يتدفق الزمن من بين يدي، وفي كل تلاق فرصة لسرد حكاية تفاعلات جديدة. فسعيد من حافظ على دهشة قلبه، مغبون تعس كل من أشاح بوجهه عن العلوم، محروم بصره من فضل نورها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.