شعار قسم مدونات

مجبر أخاك والمصاب جلل

ما توفره الجمعيات الخيرية من طعام في رفح لا يكفي لسد رمق القليل من النازحين (الأناضول)

كيف ننسى أغنية البقاء وسط الإبادة لشعب يغنيها؟ كيف نقول لنجمة واحدة وحيدة هذه السماء الظلماء أضيئيها؟ وكيف نقول لطفل جائع صبرا وجاره في كل البلدان لديه من النعمة ما يفوق حاجته حتى بات يلقيها؟ وكيف سيقرأ أولادنا تاريخنا؟ ماذا سيقولون عنا وكيف سيصيفون عجزنا؟ ومن ينسي كل هذه الأجيال من ينسيها! وكيف نقول مجددا لا يموت أحد من الجوع وغزة مات عطشا وبردا وجوعا أهاليها؟

كيف نبرر لمن خذلناه وفي منتصف الطريق تركناه؟ كيف نطلب الغفران مِن مَن مات قبل أن يحيى؟ ومِن مَن سال دمه وسفكت روحه كي بالحرية نحيى؟

منذ بداية هذه الحرب وأنا أخشى أن تفقد الكلمات معانيها، فإذ بالكلمات نفسها ضاعت، فصعبت كتابتها وقولها وبات مألوفا سماعها، ككل شيء مهول صعب في البداية. ولكن طبيعة العقل البشري وتركيبتنا كإنسان توجب علينا أن نتأقلم مع الظرف وأن نتعايش معه.

لكن هذا الظرف قاسي يصعب تحمله، ويفوق مقدرة عقولنا على تصوره، لأن السكوت خذلان. وها نحن عدنا لنردد حتى لا يعتقد أحد أننا نسينا أو تناسينا أو يقال إننا اعتدنا وما عاد حمام الدماء يحرك ما فينا.

يجب أن نفهم أن كل فرد في هذا السياق ليس بالضرورة بطلا، بل هو شخص مثلنا يرغب في حياة ينعم فيها بالسلم والسلام والاطمئنان لكن الظروف والنزاع والحرب حكمت عليه بذلك.

تحت سماء الحرب

الصمود والمقاومة يشكلان جزءا لا يتجزأ من تاريخ الكثير من الشعوب المريدة أو المحققة للتحرر من وطأة الاحتلال والمحتل والظالم والطاغية في العالم، وتبقى الطريقة الأنجع لافتكاك الحق المغتصب.

ومن بين هؤلاء الأفراد الذين يشهدون على هذا التاريخ هو الغزاوي، الشخص الذي يتعرض للاحتلال الغاشم ويظل قائما وسط الظروف الصعبة. ويسلك طريق النضال والصبر والفداء. فالغزاوي يعيش تحت الحصار منذ حوالي 17 عاما. ولك أن تتخيل حياة شخص في منطقة باتت محاطة كسجن موسع لا يدخل شيء إليها ولا يخرج شيء منها إلا بإذن وتصريح وطلب وموافقة وتوقيع. حرية مقيدة ومصير مجهول.

مجبر أخاك لا بطل

ترددت على مسامعنا في الآونة الأخيرة الكثير من العبارات والمشاهد من القطاع فسرها الناس بالبطولية وبالصبر والرضاء والقبول بالوضع.

هنا يجب أن نفهم أن كل فرد في هذا السياق ليس بالضرورة بطلا، بل هو شخص مثلنا يرغب في حياة ينعم فيها بالسلم والسلام والاطمئنان لكن الظروف والنزاع والحرب حكمت عليه بذلك. حكمت على آلاف الأطفال أن يكونوا أيتاما وعلى آلاف النساء أن يصبحوا أرامل وثكالى، وحكمت على الأب أن يودع ابنه وعلى الابن أن يودع والده، وكانت السبب في شطب عائلات بالكامل من السجل المدني وكانت سببا في دمار لا يوصف. يتعامل الغزاوي مع واقعه الأليم ويقاوم، لكنه ليس بطلا خارقا للعادة، وليس شخصا مجردا من الأحاسيس أو غير راغب في الحياة، بل هو شخص مجبر على مواجهة تلك الظروف.

الغزاوي رأيناه صنع النار من الحطب والأوراق، ورأيناه نازحا يحمل الكتب ويغني تحت سماء الحرب، ورأيناه يأكل أعلاف الحيوانات ويجمع الدقيق المخلوط بالتراب ليصنع منه رغيفا يسد به رمقه، ومع ذلك يحمد الله ويجد للحياة ألف سبيل وسبيل، وهنا أتذكر أبيات للمتنبي يقول فيها:

لا تحسبن رقصي بينكم طربا .. فالطير يرقص مذبوحا من شدة الألم

في خضم هذا الظلام وحرب الأعصاب القاسية، يظهر الشخص الذي يواصل الحياة رغم كل الصعاب. إنهم يحملون على أكتافهم أثقال الفقد والمستقبل المجهول، ويصرون على بناء حياة جديدة رغم كل شيء، أملهم وايمانهم الخالص هو الشعلة الوحيدة التي تنير دروبهم المظلمة.

 التفكير بواقعية ضرورة

على الرغم من القوة والصمود الذي يظهره الفلسطيني، يجب علينا أن ندرك أنه يحمل عبئا ثقيلا أجبره على مواجهة الاحتلال. وهو أيضا ضحية لكوكب كامل متأمر ومتخلي ومتخاذل، يقبل بقتل الأطفال وانتهاك الإنسان حيا وميتا، وهو ضحية لقوانين لا تطبق، ولعالم تعيس يقبع في الواقع تحت قانون الغاب. حيث يقتل القوي الضعيف، ويساند المستضعف الظالم، ويغفل الحاكم عن الشعب، ويباع الحق كما تباع السلع.

في خضم هذا الظلام وحرب الأعصاب القاسية، يظهر الشخص الذي يواصل الحياة رغم كل الصعاب. إنهم يحملون على أكتافهم أثقال الفقد والمستقبل المجهول، ويصرون على بناء حياة جديدة رغم كل شيء، أملهم وايمانهم الخالص هو الشعلة الوحيدة التي تنير دروبهم المظلمة.

في النهاية أنا أؤمن وأعلم علم اليقين أن أي إنسان في العالم يرغب في أن ينال حقه في الحياة الكريمة والعيش في سلام، ويمكن أن نتغنى بصمود الغزاوي كرمز للإرادة والعزيمة والإيمان، والحق بالحق في الأرض وبالرب ووعده بالنصر، ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أن الظروف الصعبة أجبرته على الوقوف معزول السلاح، مستضعف القوة وجها لوجه مع الاحتلال، بالحجارة يواجه مدرعات وقصف وصواريخ.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان