شعار قسم مدونات

أثواب البلاد.. الحكاية الممتدة عبر الأجيال

معرض للأثواب الفلسطينية في كامبريدج (الجزيرة)

الجو مشمس على غير العادة، أدلف إلى معرض للفن الحديث بأحد الأحياء القديمة في المدينة. وهذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها معرضا عن فلسطين هنا. وككل المعارض التي حضرتها، ثمة رواية؛ رواية يحكيها أكثر من أربعين ثوبا فلسطينيا، يبدو مجازا أنها حكاية من ألف ليلة وليلة، لكنها حكاية مناسبة تماما للصورة التي يحب أن يرانا عليها الآخر في هذه البقعة من العالم.

لم أكن أعلم أنني على موعد مع أكثر اللحظات اتصالا بالبلاد. مع اختلاف هذا المعرض وجماليته، كون ما فيه ليس محاكاة عابرة للتراث، بل هو التراث نفسه، جيء به إلى هنا. هذه أثواب امتلكتها نسوة البلاد حقا.

أكثر من أربعين ثوبا مطرزا، على امتداد مدن البلاد وحقب الزمان المجبولة بالدم، يتشرب منها زائر المعرض روايتها بمجموع القراءة في قصص هذه الأثواب.

شكل الغرزة هو انعكاس لطبيعة المدينة، بل وتقاليدها وصناعاتها. تحكي فيه المرأة عن مسقط رأسها بفخر وحميمية. إلا أن طريقا طويلا كان عليهن المضي فيه من النكبة حتى الانتفاضة، توحدت فيه رموز المدن لتصبح خارطة للوطن وقبة الصخرة ومفتاحا للبيت الذي لم يعد وسفينة للعودة المنتظرة.

لم أرى يوما فلسطين، كما لم ترها أمي، لكنها تعلمت هذا الفن في الكويت على أيدي نسوة البلاد أيضا، للحفاظ على إرثهن ومنع طول الزمان وتباعد الأجيال أن تنسى طريقتهن البكر المبتكرة في الصمود، وتستطيع أمي تميز تطريز كل مدينة من مدن فلسطين، وما الذي يجعلها مختلفة عن الأخرى؛ فنساء يافا طرزن زهر البرتقال محاطا بشجر السرو، وترى أوراق كروم العنب على أثواب الخليل.

إعلان

فشكل الغرزة هو انعكاس لطبيعة المدينة، بل وتقاليدها وصناعاتها. تحكي فيه المرأة عن مسقط رأسها بفخر وحميمية. إلا أن طريقا طويلا كان عليهن المضي فيه من النكبة حتى الانتفاضة، توحدت فيه رموز المدن لتصبح خارطة للوطن وقبة الصخرة ومفتاحا للبيت الذي لم يعد وسفينة للعودة المنتظرة. وحين حظر الاحتلال علم البلاد، كانت أثواب النساء مستقرا لها.

هذا المعرض خاص جدا، لأني أمام الأثواب الأصلية التي ننسج على منوالها ونعود إليها، وكانت لحظة من الزمان شعرت فيها أني أتحسس رضاهن عني، وأتمنى أن أفي وعد الحفظ والرواية.

قصة هذا الثوب تعود للعام 1930، وصل إلى رام الله مع واحدة من النساء اللواتي هجرن عام النكبة، لكن ولأنه كان تبرعا من إحدى النساء في مدينتها، كان قصيرا فاضطرت إلى تطويله من عند الخصر مستخدمة أكياس الطحين التي وزعتها الأونروا، ويمكن تمييز نون الطحين الزرقاء في وصلة الثوب بوضوح. حيث حفظت النسوة في البلاد الأرض ومعاناة الهجرة واللجوء.

اقتربت أتلمسه، وأنا امرأة من الجيل الثالث أقف أمامها لا أجاوزها، أتناسى قوانين المعرض، لعل اتصالا ما يحدث عبر الزمن فأرى المرأة والحدث والوجع، جاء من ينبهني بلطف من الاقتراب أكثر بعد أن أسرعت إلى اختطاف لمسة. شعرت بنفس الألم الذي لا أعاينه إلا في سويمة، حين يحيي الشعب الأردني ذكرى النكبة عند أقرب نقطة للبلاد، فنحن نشم هواء السويمة ونهتف ونرفع الرايات ونكبر، ونعاهد الله ألا ننسى.

بقدر الهزيمة التي لحقت العدو، يحاول محو عارها والهروب من دفع ثمنها بالتجويع والهدم والحرق، ترى صمودا تظنه خيالا من فرط قوته، ولا أدري متى يتسع المقام يوما لسرد كل تلك القصص.

في عمان، ولأنها الحاضنة الشعبية للقضية بكل تناقضاتها، كنت أقول إن فلسطين تظهر لي في أزقة المدينة، لكن لم أكن أظن أنها تتجلى لي أيضا هنا، في المدينة البعيدة، والتي لم يعترف نظام التسجيل فيها بمكان مولد والدي حين قلت لهم فلسطين. لكنها بلاد بركة تصيب من النفس بقدر ما تقبل عليها.

بقدر الهزيمة التي لحقت العدو، يحاول محو عارها والهروب من دفع ثمنها بالتجويع والهدم والحرق، ترى صمودا تظنه خيالا من فرط قوته، ولا أدري متى يتسع المقام يوما لسرد كل تلك القصص. وترى بالصوت والصورة الأفران التي ابتكرنها، وكيف قمن بتحويل العدم إلى حياة، إضافة لحياكة الخيم، والتجوال بين الناس للتثبيت، وخلق الطعام من اللاشيء، والمخاض من غير عناية ولا تخدير. فترى تحدي الاجتياح بالبقاء في المنزل، وتحدي قناص العدو لإنقاذ مصاب، وتحدي القصف باستمرار التطبيب والإسعاف.

إعلان

طاردتني أشباح الأثواب المطرزة وأنا أرى هذه المشاهد، هل يكون حظها أيضا معرض فلكلوري يستجدي تعاطف الرجل الأبيض؟ هل يدرك هذا العالم أن النساء في غزة لا ينفكون عن رجالهم، وأن رجالهم لا ينفكون عن المقاومة؟ كيف نفي حقهن في رواية هذه الأخبار؟ كيف نروي الحكاية كاملة من غير اجتزاء؟ لا أعرف الإجابة، لكن عقدة الناجي تجبرني على الاختصار.

فعاليات التضامن تتوالى، تملأ فلسطين ورموزها ساحات لندن، ووزيرة الداخلية تصدر بيانا شديد اللهجة، صحيح أن صلاحيات سلطتها على الشرطة إرشادية، ولا تستطيع منع المظاهرات، لكنها حاولت التحريض لأقصى حد، حتى هتافك عبارة "فلسطين حرة من النهر إلى البحر" تعرضك للمساءلة لأنك بنظرها تدعو لإبادة اليهود.

كيف أذهب لاحتجاج لا أرفع فيه أعلامنا وأهتف شعاراتنا، كيف أكتفي بالتنديد والاستياء والتعاطف كمتضامنة خارج الصف ولست صاحبة القضية؟ لكنها الأقدار.

أدفع عربة ابني الرضيع نحو تجمع مظاهرة تضامن في كامبريدج، تؤهله دماؤه من جهتي ليكون من أبناء الجيل الفلسطيني الرابع بعد النكبة. وضعت على رأسه قصاصة من كوفية البلاد، حاول نزعها عن رأسه ومضغها.

وأمام كنيسة سانت ماري وسط المدينة تجمع الحشد، من النظرة الأولى ترى العرب سواد الحشد، قمت بالتعرف في هذه المظاهرات على عائلات فلسطينية تحاول ألا تنسيهم الغربة طريق عودتهم، يستعينون بالجواز الإنجليزي لإبقاء أطفالهم أطول فترة ممكنة في البلاد تمتد لسنوات. سمعت قصصا كثيرة توقفت أمامها طويلا، كيف تختار عائلة ما أن تكون فلسطين هي الأساس الذي عليه تبنى عليه أهم قرارات حياتها؟

اندمجت أكثر مع الحشد وأمعنت النظر، ورأيت غزة قد أيقظت وجمعت المحتجين على اختلاف اللسان والأنساب، وهذا ما يسعى الإعلام الرسمي أن يقلل من وجوده فضلا عن أثره.

تساءلت إن كان وجودهم هنا مجرد تضامن إنساني متحفي أيضا، ينتقي صور الضحية وينكر في الآن نفسه صورة المقاومة والصمود، لكنها قضية الحق في نهاية المطاف، فليأتي الناس إليها من أي باب شاؤوا.

إعلان

منظمة التظاهرة ترفع العلم وتهتف فلسطين حرة من النهر إلى البحر معرضة نفسها لاحتمالية التحقيق بتهمة "الكراهية"، أما نحن فنظرنا في وجوه بعضنا فرحا بتمرد، ولو شكلي، استطاعت تلك المرأة تحقيقه منذ اليوم الأول، ولم تتوقف عن هذا الهتاف حتى هذه اللحظة. امرأة بريطانية باكستانية من الجيل الثاني أنشأت تلك التظاهرة في مدينة صغيرة، غير أن تلك قصة أخرى. أما قصتنا فمازالت مادة الفصول، الرجال تقاتل، والنساء تروي الحكاية، ولم نكن هنا، من غير الحياكة والحكاية، نسوة البلاد، كل البلاد، من النهر إلى البحر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان