شعار قسم مدونات

نقد ابن السبكي للحكم بالياسة

التاريخ الإسلامي - إصلاح دولة المماليك
ذكر ابن السبكي أبرز أفراد مؤسسة القضاء وما يجب عليهم القيام به مما يصلح حال هذه المؤسسة (الجزيرة)

تولى ابن السبكي منصب القضاء في دولة المماليك في دمشق أربع مرات، وترقى خلالها إلى منصب قاضي قضاة الشافعية، "وجرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قَاضٍ قبله"، اطلع خلال عمله بالقضاء على الفساد في دولة المماليك عموما، ومؤسسة القضاء خصوصا، فقدم رؤيته الإصلاحية لمؤسسة القضاء في كتابه: (معيد النعم) بناء على خبرته العملية فيه، فذكر أبرز أفراد هذه المؤسسة وما يجب عليهم القيام به مما يصلح حال هذه المؤسسة، وكان ممن ذكرهم من أفراد هذه المؤسسة: قاضي الجيش (الحاجب).

عرض ابن السبكي لحال هؤلاء الحجاب الذين صاروا يحكمون في قضايا الناس بالياسة، فدعاهم لرفع الأمور إلى الشرع؛ لأن شريعة الإسلام شريعة كاملة، والأخذ بها سبب النجاة في الدنيا والآخرة

لم يكن الحاجب أو قاضي الجيش يتبع مؤسسة القضاء زمن ابن السبكي، وإنما كان عمل هذا القائد قديما متعلقا بأمر الجيش فقط، يعرض الجيش ويحكم بين الأمراء والجند فيما يتعلق بالإقطاعات ونحوها، ولم يكن يتصدر للحكم والقضاء بين الناس، ثم صار بعد ذلك يحكم بين الناس في بعض القضايا الشرعية، وليس هذا هو الذي أراد ابن السبكي إنكاره إذا ما كان الحاجب يحكم بأحكام الله تعالى، وإنما أراد بيان أن هؤلاء الحجاب كانوا يحكمون بالياسة شريعة جنكيزخان، وكانوا يسمونها السياسة. قال المقريزي في هذا النوع من السياسة: "وإنما هي كلمة مغلية أصلها ياسة، فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سينا فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلا ما قلت لك"، ويكاد المقريزي يكون هو المؤرخ الوحيد الذي نقل حكم الحجاب بالياسة، ثم أكد ذلك ما أورده ابن السبكي أيضا، وقد قال المقريزي: "ولم تكن عادة الحجاب فيما تقدم أن يحكموا في الأمور الشرعية"، وإنما كانون يحكمون بداية أمرهم بين أفراد الجيش باعتبار أن أكثر أفراده قد جاؤوا من بلاد التتار ونحوها فقال المقريزي: "احتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكزخان والاقتداء بحكم الياسة، فلذلك نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم، والأخذ على يد قويهم، وإنصاف الضعيف منه على مقتضى ما في الياسة".

ثم ذكر المقريزي من الأسباب التي جعلت السلطان يمكن الحجاب من الحكم بين الناس ويوسع صلاحياتهم: أن عددًا من تجار العجم وقفوا بباب السلطان: الصالح بن محمد بن قلاون (ت:746ه) يذكرون له أنهم ما خرجوا من بلادهم إلا لكثرة ظلم التتار، وأن تجار القاهرة قد اشتروا بضائعهم وأكلوا ثمنها، ثم أثبتوا إعسارهم عند القاضي، فكتب السلطان للحاجب: سيف الدين جرجي (ت:770ه) بإخراج حقوق هؤلاء التجار من غرمائهم، فقال المقريزي معقبا على تلك الحادثة: "وتمكن الحجاب من حينئذ من التحكم على الناس بما شاؤوا"، أي توسعت صلاحياتهم أكثر، وقد حدث ذلك عام: (753ه)، وكان قد بدأ تدخل الحجاب بالحكم بين الناس منذ عام: (730ه) واستمر بعدها، وهي الحقبة التي عاش فيها ابن السبكي وانتقد فسادها، ثم استمر أمر الحجاب على ذلك في دولة المماليك الشركس أيضا، وقد ذكر ابن الفرات (ت:807ه) أن السلطان برقوق (ت:801ه) كان يسأل المتظلم الذي يأتيه إن كان عرض قضيته على القاضي أو الحاجب قبل أن يصل إليه، وكانت دائما ما تقع إشكالات بين القضاة والحجاب لأجل تعرض الحجاب للحكم في الأمور الشرعية.

صور ابن السبكي جانبا من حال هؤلاء الحجاب وأنهم جهلة يتذرعون بأنهم من عوام الأتراك الذين لا يعرفون كتابا ولا سنة، وإنما نالوا مناصبهم بالرشوة والبرطيل

وكان أن عرض ابن السبكي لحال هؤلاء الحجاب الذين صاروا يحكمون في قضايا الناس بالياسة، فدعاهم لرفع الأمور إلى الشرع؛ لأن شريعة الإسلام شريعة كاملة، والأخذ بها سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وقال إن: "مصلحة الخلق فيما شرعه الخالق الذي هو أعلمُ بمصالحهم ومفاسدهم، وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم متكفلة بجميع مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم، ولا يأتي الفساد إلا من الخروج عنها، ومن لزمها صلحت أيامه واطمأنت".

وذكر ابن السبكي هؤلاء الحجاب الذين لا يرون صلاح الدنيا إلا بسفك الدماء وضرب المسلمين بلا ذنب؛ ذكرهم بقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] بأنا لا بد أن نحكم هذا النبي العظيم، ثم إذا ما حكم لنا فلا بد من الانقياد والإذعان لحكمه، وإلا لم نكن مؤمنين، ثم قال: "فكفى بهذه الآية واعظا وزاجرا لمن وفقه اللَّه تعالى".

ثم صور ابن السبكي جانبا من حال هؤلاء الحجاب وأنهم جهلة يتذرعون بأنهم من عوام الأتراك الذين لا يعرفون كتابا ولا سنة، وإنما نالوا مناصبهم بالرشوة والبرطيل، فقال لهم: إن ذلك لا ينفعكم عند الله تعالى، وكانوا في أحكامهم يميلون لأول شاك فيحكمون بناء على قوله ولا يستمعون للآخر، فقال ابن السبكي: "وما ذاك إلا للغفلة المستولية على قلوبهم التي صيرت قلوبهم كالأرض الترابية التي لم ترو بالماء"؛ فدعاهم إلى الرجوع إلى أهل الذكر ليتعلموا ويفهموا أحكام الله تعالى ليحكموا بها بين الناس، ثم قال لمن لم يستطع فهم أحكام الله تعالى: "وإن عجزت عن الفهم فما لكَ وللدخول في هذه الوظيفة؟! دعها.

إذا لم تستطع أمرا فدعه .. وجاوزه إلى ما تستطيع

وبهذا الأمر تكون دولة المماليك هي أول الدول الإسلامية التي حكمت بغير الشريعة الإسلامية في بعض الجوانب -بحسب اطلاع الباحث-، ويكون ابن السبكي من أوائل العلماء الذين انتقدوا ذلك بشكل مباشر، ولعل هذا الذي كان سببا في سجنه مرات. رحمه الله تعالى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان