تجف بالحلق الكلمات، وتسكت العبارات. ولا يفي الاجتهاد في سبك مقال وسرد حكمة بقصد؛ إذ الوصف على سطور كتاب، أو في كلمات خطاب، لا يعدو أن يكون كلاما من الكلام. ودعني من الكلام الركيك لفظا البارد معنى، الذي ألفناه في مجتمعات الخمول، ولكن معذرة إلى ربنا وبيان موقف، وانحيازا إلى الحق بالمقدور عليه من البلاغ، وصراخا في وجه النفس ألا تعتاد المشهد.
رسمت الشعوب الغربية صورا من التضامن مع غزة فريدة، فاقت في قوتها وعددها وتأثيرها -في تقديري- قوة وعدد وتأثير وقفات المسلمين.
يحكى أن رجلا، لبس يوما جلبابا أبيض ناصعا، ووضع على رأسه طربوشا، وانتعل” بلغة“مغربية صفراء، وحمل في يده سبحة يحركها بأصابعه داخل الجلباب -خوفا من الرياء- مصليا على رسول الله مهللا مكبرا، ولقِي في طريقه عاملا متعرقا يدفع عربة ثقيلة قد انغرست عجلاتها في الوحل. قال الرجل وقد أمل فيه أن يكون المعين على الهم، المساهم في الفرج: أعِنِّي يا حاج، وادفع معي لأخرج من هذه الحفر، تنل من الله حسنات. نظر الأنيق إلى وضع العربة المزري، وتفحص وجه صاحبها الملتهب بسواد الشقاء، المحمر بالدم الجاري في أوداجه مما يقاسيه من العناء، وتأمل الطين والحفر؛ ثم أرجع البصر كرات ينظر إلى بلغته الصفراء وجلبابه الأبيض؛ أخرج يده من جيبه تحمل السبحة، وأظهرها للرجل قائلا: إن حسنات نقية باردة خير من حسناتك. ثم انصرف آمنا من الطين والحفر ذاكرا ربه: الله أكبر. -وفي رواية أنه صرخ في وجهه: ما حملك على دخول الحفر؟
رسمت الشعوب الغربية صورا من التضامن مع غزة فريدة، فاقت في قوتها وعددها وتأثيرها -في تقديري- قوة وعدد وتأثير وقفات المسلمين. أما في ساحات العرب والمسلمين، الرسمية والشعبية، فقد فترت الهمة وانساقت الجموع خلف كرة آسيا وأفريقيا، وطال عليهم الأمد وقست قلوبهم، حاشا بعض الصادقين هنا وهناك، لم يدعوا راية غزة تسقط.
يبدو غريزيا في كثير من المسلمين شعور "أنا ومن بعدي الطوفان"، غير بعيدين في ذلك عن مبدأ آين راند المدافعة عن الأنانية، غير المهتمة بسحق الضعيف، المؤمنة بالقوة، المعتبرة أن السعي وراء مصلحة الفرد هو الفضيلة الأساسية. أو مبدأ هوبز الموهِم أن الدفاع عن المصلحة الفردية يعزز السلام والاستقرار.
الحديث عن المبادئ والأخلاق في عالم اليوم ضرب من الجبن وهروب من واقع التدافع واستحقاقاته يدفعان صاحبهما للتدثر بدثار العافية للعالم الظالم من تحت جلباب السلامة
جاهد بالسنن!
ليس أكثر المسلمين بأفضل حال ممن نادى أبا عبيدة من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يجاهد بالسنن، وليس أحسنهم بأفضل من صاحبنا ذي الجلباب الأبيض المؤثر الحسنة الباردة على عفن العون. تكشف الحوادث والمدلهمات سواد القلوب لا يغني فيها بياض ثياب.
كشفت غزة سوءاتنا، يوم أكلنا جميعا من شجرة الذل المنهي عنها، ولا ورق نخصف به على عورتنا. كشفت القريب قبل الغريب.
- الله أكبر يا مؤثرا سلامة الانزواء عن معمعان العزة.
- الله أكبر يا مدعي الإنسانية وبطون صبية غزة ونسائها ورجالها جوعى.
- الله أكبر في قلوبكم يوم لا تنبسون بموقف عن غزة يا علماء.
- الله أكبر حين تؤثرون السلامة على طين المواقف يا رجال الإعلام والفن والسياسة.
لا شك أن الحديث عن المبادئ والأخلاق في عالم اليوم ضرب من الجبن وهروب من واقع التدافع واستحقاقاته يدفعان صاحبهما للتدثر بدثار العافية للعالم الظالم من تحت جلباب السلامة؛ كتب يوما، النازي كارل شميت صادقا، أن الحكم النهائي في العالم كما هو قائم، للسلطة والقوة، وليس للأخلاق. وإن من البلادة وانطماس البصر والبصيرة، والغرة وطيش الرجولة، وفساد الحكم والتقدير؛ أن ينصرف العقلاء والصادقون عن معمعان” السلطة" إلى مستراحات الوعظ. أب الاجتهاد وأمه، وبنوه وخاله وعمه، اجتهاد يوصل الصادقين الأعزة إلى مواطن” السلطة“والتأثير والفعالية. رسالة تؤكدها وتزيد من وضوحها، الهجمة الشرسة على غزة، وليست سوى هجمة على نموذج في” السلطة“ناجح في تحديه، باعتبار ظروفه وسياقه. يكشف ما يواجهه من قدر لامعقول لامحدود من الدمار واللاإنسانية -بات معلوما أن أنظمة بالمنطقة تساهم فيه- أن الهدف وأد عزته وقتل مروءته وتحديه وخنق نسمات التحرر واليقظة فيه. والله متم نوره..
لست ممن لا يرى الواقع إلا أسودا، ولا ممن لا يقدر للصادقين جهودهم، ولكنها عبارات ساقها القلم، وعبرات سكبها الهم والألم، وأوجبها نداء: لا تعتادوا المشهد. والله المستعان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.