لقد ضرب الإنسان الفلسطيني منذ بداية النكبة العربية وإلى يوم الناس هذا أروع الأمثلة في التضحية والفداء والبسالة للدفاع عن حقوقه المشروعة، وتجسدت تلك المعاني في معركة طوفان الأقصى، إذ يحمل المواطن الغزاوي على كتفه عبء الذود عن شرف هذه الأمة في مواجهة خمس دول كبرى بآلاتهم العسكرية الفتاكة ومن خلفهم عشرات الدول الغربية؛ وربما غير الغربية، بالسلاح والمال والدعم السياسي للمحتل الإسرائيلي، أو بالصمت العاجز قليل الحيلة، ليدفع أهل غزة ثمن صمودهم دما وحياة.
قالوا قديما: (الحق ما شهدت به الأعداء) فقد نشرت صحيفة "هآرتس" العبرية افتتاحية إبان عملية سيف القدس قال كاتبها: (إننا نتعرض لحرب لسنا من نديرها.. وبالتأكيد لسنا من ينهيها خاصة وأن المدن العربية في إسرائيل فاجأت الجميع بهذه الثورة العارمة ضدنا بعد أن كنا نظن أنهم فقدوا بوصلتهم الفلسطينية.
العالم العربي مليء بالمدن غير غزة تعاني ويقدم أهلها التضحيات، يقول أحدهم، فالصومال يعاني منذ ثمانية وعشرون عاما، قتل عشرات الآلاف وهجر أغلب أهله وعاشوا المجاعة والفقر ولا يزالون
ويسترسل الكاتب إلى أن يقول: (إنهم فعلا أصحاب الأرض ومن غير أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده بهذه الشراسة وهذا الكبرياء والتحدي، وأنا كيهودي أتحدى أن تأتي دولة إسرائيل كلها بهذا الانتماء وهذا التمسك والتجذر بالأرض) وتعنون افتتاحية أشهر صحيفة عبرية بعنوان (الفلسطينيون أفضل شعوب الأرض في الدفاع عن أوطانهم)، شهادة يجب أن توضع في كل مواجهة يصمد فيها أهل غزة رغم المعاناة.
لكن العالم العربي مليء بالمدن غير غزة تعاني ويقدم أهلها التضحيات، يقول أحدهم، فالصومال يعاني منذ ثمانية وعشرون عاما، قتل عشرات الآلاف وهجر أغلب أهله وعاشوا المجاعة والفقر ولا يزالون، والعراق يعاني منذ مطلع التسعينيات بالحصار ثم الغزو والتخريب والدمار، ويعاني جزء من أهله الاضطهاد والتهميش والاعتقال والقتل على الهوية والإخفاء القسري، واليمن ليست أحسن حظا من العراق وتعاني ما يعاني على يد نفس اليد الطائفية التي تمسك بالسلاح، فتقتل وتدمر وتقصف المدن وتهدم الدور على رؤوس ساكنيها، حتى بات أكثر من ثلثي اليمنيين مهددين بخطر المجاعة وتفشي الأمراض، بعد أن استطاعت ميليشيا الحوثي إفقار البلاد، وسوريا تعاقب منذ ثلاثة عشر عاما لأن أهلها أرادوا الحرية والانعتاق من حكم الأقلية الجائر الطائفي المدعوم والذي سلم نفسه ومقاليد البلاد للمحتلين الروسي والإيراني، يسوم السوريين سوء العذاب حتى في المنافي بعد أن تركوا بلادهم غصبا ليصبحوا عبئا على دول العالم ولا يستطيعون رغم ذلك العودة بعدما دمرها المحتل غير آبه، والسودان آخر عضو في نادي المآسي العربية انضم أخيراً بطمع حكامه وبوسوسة شياطين وكلاء المحتل وخدمة له، فذاق أهله الودعاء مرارة النزوح مع الجوع وعرفت نساؤه جرائم الاغتصاب على يد المرتزقة شذاذ أفريقيا المأجورين، لتنهب ثروات السودان وذهبها لصالح الطامعين والحاقدين.
إن قضية فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية جمعاء، كما أن قضية فلسطين هي قضية مقدسات، بالإضافة إلى أنها أقدم قضية للمسلمين والعرب إذ أن قدمها من قدم الفتح الإسلامي، وربما من أجل ذلك تسلط الأضواء وتدار الكاميرات وتغطى الأخبار بشكل مكثف، ويزيد من أهمية القضية لدى الغرب أن الطرف المقابل هي دولة وظيفية زرعت في هذه المنطقة لتكون بيدقا متقدما للمحتل الغربي في مواجهة أي اتحاد عربي، فدور الاحتلال هو تمزيق أي لحمة عربية إسلامية يمكن أن تنشأ بين شعوب هذه المنطقة، إذا أفلت الزمام من يد الوكلاء، لذا فمن الطبيعي أن يقف العالم كله على أطراف أصابعه، ومن الطبيعي أن يدير آلته الإعلامية نحو غزة بعد عملية طوفان الأقصى.
لأن الأولويات تختلف فإن المصالح تتقاطع، ويرجع ذلك لسببين، الأول أن الشعوب تماهت مع الحدود التي رسمها المحتل وباتت تضحي من أجل خط وهمي رسم على خريطة، والثاني وهو الأهم هو انعدام الرؤية الشاملة والمنطلقات لهذه الرؤية
يطرح سؤال لماذا لا يهتم العالم بكل تلك المآسي رغم عظمها، وربما يطرح السؤال المشروع ممن يعاني من أهل تلك المآسي، وإذا كان السؤال مشروعا، وأجبنا جزئيا عليه، إلا أن التفكير في أصل المشكلة يمكن أن يضع إجابة شافية لهذا السؤال الملح والذي أوصل الحال، إلى أن أصبح في نفس أصحاب المآسي شيء تجاه القضية الفلسطينية، ولو لم يصرحوا، لاسيما وأن المصالح تتقاطع، مع دخول عناصر ثالثة في كل مأساة من المآسي التي تعيشها الشعوب العربية، فيقول أحدهم، لماذا تشكر المقاومة في فلسطين إيران أو تعزيها في قتلاها، وهي التي قتلتنا في سوريا والعراق واليمن، سواء بحرسها الثوري أو بالميليشيات الموالية لها، ويشطط البعض وصولا إلى أن ضربات الاحتلال الإسرائيلي للنظام السوري أو الميليشيات الموالية لإيران في العراق أو اليمن، يستحق الاحتلال الشكر عليها.
ولأن الأولويات تختلف فإن المصالح تتقاطع، ويرجع ذلك لسببين، الأول أن الشعوب تماهت مع الحدود التي رسمها المحتل وباتت تضحي من أجل خط وهمي رسم على خريطة، والثاني وهو الأهم هو انعدام الرؤية الشاملة والمنطلقات لهذه الرؤية، إذ تراجع الانتماء للدين لحساب الانتماء للوطن والأرض، وللتذكير، فقد سافر الطالب الأزهري من موطنه في حلب إلى القاهرة حاملا سكينا ليؤدب كليبر قائد الحملة الفرنسية الذي دنس الجامع الأزهر بخيول جنوده ليلحق بالثوار الذين احتموا في رواق الجامع وباحاته، وشد عز الدين القسام الرحال إلى فلسطين من سوريا ليذود عن عرض المسلمين بعد انتهاكات الإنجليز، ويشهد التاريخ وأصحاب البلد على بسالة عدد ممن ترك وطنه من العرب ليحارب المحتل في العراق واليمن والبوسنة والشيشان وأفغانستان قديما وحديثا، والشاهد أنه كلما اتسعت الرؤية وفهم الأفراد الواقع الجيواستراتيجي، خفتت النبرة المناطقية، وكلما عظم الهدف -الذود عن الملة- كلما تعاظمت الفكرة وترفع أصحاب الهمم، وبات الحديث عن السفاسف من شيم الصغار.
لقد استطاع أعداء الأمة أن يشعلوا في طرف ثوب كلٍ من أقطار الأمة نارا لينشغل كل صاحب همٍ بهمه، لتغيب من بعد ذلك النصرة، والنفير من أجل الذود عن الأهداف الإستراتيجية ويصبح الحديث عن التحالفات المرحلية هي شاغل أصحاب الأفق الضيق، ولعلهم لا يدركون أن السياسة ديناميكية وأن تموضع القوى يتغير ومن يتخذ حليفا مرحليا اليوم، هو عدو غدا طالما كانت الأهداف واضحة والبوصلة منضبطة، إذ تبني التحالفات الإستراتيجية على عدة معايير أهمها وحدة الهدف والمصير، وهي المعايير التي تجمع هذه الأمة، والشيء بالشيء يذكر، فإن مصالح إيران وأميركا تتناغم عندما تجتمع على مخالفيهم ممن يحلمون بمجد عمر بن الخطاب، وتختلف عندما تحلم طهران بمساحات نفوذ أكبر من تلك التي خططت لها واشنطن للاستفادة من قوة الأخيرة وميليشياتها.
في ظل هذه الحالة التي تعيشها الأمة علينا أن نضع إجابات لتساؤلات كبيرة يمكن من خلالها بناء رؤية وإستراتيجية، والأهم هو إسكات أصحاب الأفق الضيق ومنعدمي الرؤية وليعمل كل على إطفاء النار التي نشبت في طرف ثوبه وعينه على من أشعلها لتجاوز الخلل الفكري الذي أصاب الأمة بصناعة قيادات واعية من ناحية ونشر الوعي أفقياً لمعالجة ومواجهة الفكر المضاد الذي يريد للأمة أن تظل في التيه ولا تعرف لنفسها موطئ قدم وتتخبط في متجر المرايا إلى أبد الأبدين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.