شعار قسم مدونات

رؤية ابن خلدون لإصلاح مؤسسة القضاء

التاريخ الإسلامي - إصلاح دولة المماليك
رأى ابن خلدون أن الفساد قد فشا بين القضاة وعم وأنهم يتحملون جزءا كبيرا من فساد مؤسسة القضاء كلها (الجزيرة)

ولي ابن خلدون القضاء في دولة المماليك خمس مرات، خبر خلالها حال مؤسسة القضاء وما اعتراها من فساد سواء في ذلك القضاة أنفسهم، أم نوابهم أم الشهود، ورأى بنفسه التدخلات الأميرية في تعيين القضاة، وفي أقضيتهم أيضا؛ فكانت له رؤيته لإصلاح ذلك، وناله بسببها أذى كثير قال ابن حجر (ت:852ه) "وحصل له من الإهانة ما لا مزيد عليه، وعُزل".

أوضح ابن خلدون تجربته الإصلاحية العملية في القضاء وما ناله بسبب مواقفه فيه، في كتابه: (التعريف)، ثم إنه بعد عزله عن القضاء في المرة الثالثة كتب رسالة خاصة للقضاة سماها: (مزيل الملام عن حكام الأنام) ضمنهما رؤيته النظرية لإصلاح مؤسسة القضاء. قد قدم ابن خلدون في هذين المؤلفين رؤية إصلاحية شاملة لمؤسسة القضاء، وذلك من خلال عرض رؤيته العلمية وخبرته العملية التي ترفع شأن القاضي، وتزيل اللوم عنه.

رأى ابن خلدون أن أول خطوة في إصلاح ذلك الفساد إنما تكون في أن يؤسس القاضي أموره على النيات الصالحة في توليه القضاء

  • القضاة: رأى ابن خلدون أن الفساد قد فشا بين القضاة وعم، وأنهم يتحملون جزءا كبيرا من فساد مؤسسة القضاء كلها، سواء من حيث سعيهم لتولي المنصب بالبرطلة والبذل، أم من حيث سكوتهم على فساد الشهود، والخضوع للتدخلات الأميرية في أقضيتهم، أو غيرها من جوانب الفساد؛ ذكر ذلك كله عند حديثه عن سياسته في إصلاح الفساد الذي عم مؤسسة القضاة، وأنهم -أي القضاة-لم يوافقوه على منهجه ذلك، بل إنهم دعوه إلى "مرضات الأكابر، ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة".

رأى ابن خلدون أن أول خطوة في إصلاح ذلك الفساد إنما تكون في أن يؤسس القاضي أموره على النيات الصالحة في توليه القضاء أولا، ثم في تفاصيل ذلك ثانيا، فينوي بتقلده القضاء أن يبرز لإقامة نظام العالم، وبث العدل في الخلائق امتثالا لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وإذا ما جلس في منصب القضاء أن يستحضر أنه انتصب خليفة لله العظيم في الحكم بين عباده لينفذ أحكامه، لا أحكام غيره من خلقه وعبيده، وأنه بمرأى من الله ومسمع.

وحذر ابن خلدون القضاة من صحبة الجاهلين ممن لا رأي لهم، ومن مصاحب يتوصل بصحبته إلى أغراض فاسدة، فقال في هؤلاء: "فإن كثيرا منهم لأسحر من هاروت وماروت في التحيل على الصحبة".

زود ابن خلدون القاضي بالمنهج الذي يسلم به في قضائه إذا ما عرضت عليه القضية، وذلك بأن يتأنى حتى يتفهم مراد المدعي والمدعى عليه

  • منهج القضاء: ثم زود ابن خلدون القاضي بالمنهج الذي يسلم به في قضائه إذا ما عرضت عليه القضية، وذلك بأن يتأنى حتى يتفهم مراد المدعي والمدعى عليه؛ فإذا ما وضحت له القضية كالشمس ليس دونها حجاب؛ يستحضر قول الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44]، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، ثم يستحضر حكم تلك القضية لا برأي ولا باستحسان؛ بل بالنقل الصريح، أو ببذل الجهد في درك الحق من أهل الاجتهاد، وبطرقه المعتبرة، وإذا ما تركبت القضية من عدة أبواب؛ فليميز كل باب محله منها، ويأخذ ما يتعين اعتباره، ويلغي ما لا مدخل له في الحكم، وقبل أن يلزم بحكمه؛ يعمل على المصالحة بين الخصمين، من غير تحليل حرام، ولا تحريم حلال، فإن امتنعا عن الصلح؛ استحضر قول الله لنبيه داود: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، ثم يحكم ويلزم.

وإن لم يتبين للقاضي الحكم لغبش في الواقعة استوضحها، أو لعدم استحضار الحكم، أو لغيره من الأسباب؛ رجع فيه إلى من يثق بعلمه وعقله وشاورهم، فإذا ما رجع إليه الجواب؛ كرر النظر فيه، وراجع الكتب المعتمدة حتى يتضح له الحال جدا، فإن لم يزل عنه الريب؛ توقف واعتذر عن الحكم، وذلك أسهل من اقتحام خطر: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»، ونبَّه القاضي إلى ضرورة الالتفات إلى الأعمال التي تدخل تحت ولايته كالحفاظ على أموال الأيتام، والأوقاف ومنع الظلمة من الاستيلاء عليها ورد ما أخذوه منها.

  • التدخلات الأميرية في القضاء: كان مما خبره ابن خلدون في مؤسسة القضاء وتعرض له: التدخلات الأميرية في أقضية القضاة؛ فقدم رؤيته لإصلاح ذلك بأن على القاضي أن يعلم قبل كل شيء أن استقلاله في قضائه حق للشرع، وليس حقا لنفسه يجوز له التنازل عنه لمن شاء من أصحاب السطوة والجاه، أو أهل الشفاعات والوسائل، وبين للقاضي كيف يتعامل مع هؤلاء بمداراة لا تخالف الشرع، وذلك بأن يظهر الاهتمام والاحتفال بحاجتهم، ويسرع ببيان مهمهم مفصلا، ومتى كان مُهمهم معضلًا؛ تظاهر لهم ببذل الجهد، وإعمال الفكر، ثم يرسل إليهم مع رسول أديب أمين ناصح رسالة اعتذار أنه لم يجد لـمهمهم وجها؛ فإذا لم يقبلوا منه ذلك، وظهر منهم نوع إلزام له؛ يخرج من هذه المعضلة بإحالة الأمر إلى من هم فوقه من قضاة القضاة، وعلماء الإسلام، ثم قال: "ومتى لم يدار.. فسد النظام، وقلت الحرمة"، وإن خاف وهلعت نفسه؛ فليستعن بالله، ويكثر ذكره، ويتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله عز وجل وكله الله عز وجل إلى الناس».

وقد وضع ابن خلدون هذه السياسة الإصلاحية بعد أن تعرض هو لمثل تلك التدخلات الأميرية في أقضيته، ولكنه كان يعرض عنها ويردها، وقد تسبب ذلك بعزله عن القضاء مرة، وعن ولاية خانقاه بيبرس مرة أخرى، وقد قال ابن تغري (ت:874ه) واصفا ولاية ابن خلدون للقضاء: "فباشره بحرمة وافرة، وعظمة زائدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة، وشفاعات الأعيان، فأخذوا في التكلم في أمره، ولا زالوا بالسلطان حتى عزله".

فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه، فلم يغنوا عنه من الله شيئا، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة

  • ابن خلدون
  • المشغبون على القضاة: وقد أبان ابن خلدون في كتابه: (التعريف) أن الفساد قد ينخر مؤسسة القضاة من بعض أصاغر المفتين الذين "يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون"، وقد كانوا يفتون الخصوم بعد صدور حكم القاضي متتبعين شعاب الخلاف في المذاهب "فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب بعد نفوذ الحكم"؛ فذكر من سياسته في إصلاح فسادهم فقال: "فصدعت في ذلك بالحق، وكبحت أعنَّة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم".

ثم ذكر صنفا آخر من هؤلاء الأصاغر قال وهم: "ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، ولا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب في فن"، وقد كان هؤلاء يجلسون في الزوايا، ويضطر بعض الناس لتحكيمهم في الحقوق "فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخصون به للإصلاح لا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل"، فكان من سياسته في دفع فسادهم ما قاله: "فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه، فلم يغنوا عنه من الله شيئا، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان