لم يتول ابن تيمية وظيفة في دولة المماليك التي عاصرها حتى يخبر فساد إدارات الدولة من داخلها، ولكنه كان مع ذلك على اطلاع بما يقع فيها من فساد، لا سيما منها مؤسسة القضاء، ولذا قدم رؤية لإصلاحها.
ذكر ابن تيمية أركان مؤسسة القضاء وهم القضاة والشهود والخصوم؛ استنبط ذلك من قول النبي «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال». ثم تناول الحديث عن العدل في القضاء وهو يرى الظلم والفساد الذي وقع من كثير من القضاة، حتى قال مبينا ذلك الفساد: "وقد رؤي من الولاة من هو خير من أكثر القضاة، ورؤي من القضاة من هو شر من فساق الولاة"، ورأى أن فسادهم ومخالفتهم الشرع إنما سببه أغراضهم المذمومة فيها، كطلبهم الولاية للرئاسة والمال أو بالمال، فدعاهم إلى اتخاذ الولاية قربة يتقربون بها إلى الله بإقامة العدل أعظم مقاصد الولاية وأهمها، وبين لهم أن الحكم بالعدل يكون في الحدود والحقوق، وأن هذه الحقوق والحدود تكون على نوعين: حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين.
ورأى ابن تيمية أن القاضي إذا ما عطل إقامة الحدود بجاه أو مال يأخذه؛ فقد أتى بضد المقصود من الولاية الذي هو إقامة العدل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فأما حقوق الله تعالى فرأى ابن تيمية أن من أسباب صلاح ولاية القضاء إقامة الحدود على الشريف والوضيع، وأنه لا يحل تعطيلها -بعد أن ترفع للسلطان- بشفاعة، ولا بهدية، ولا بغيرها؛ لأن ذلك سبب فساد الدول، وهلاك الأمم قبلنا، وقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، وقد توعَّد رسول الله من حالت شفاعته دون إقامة حد من حدود الله فقال: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره».
ثم ذكر ابن تيمية صورا من آثار فساد بعض القضاة في الحكم بحدود الله تعالى فعد من ذلك: أن فساد كثير من أهل البوادي والقرى قطاع الطرق ورؤساء الناس وأغنيائهم ونحوهم؛ إنما جاء من تعطيل بعض القضاة إقامة الحدود عليهم، أو السكوت على فسادهم بالبرطيل والجاه، ومنه تعطيل إقامة الحد على شارب الخمر لأجل المال الذي يبذله، وكان من أبرز ما ذكره من صور فساد القضاة: سكوتهم على أمر كان شائعًا وما يزال عند بعض ذوي الجاه من أهل البوادي والقرى، أنه إذا ما ارتكب أحد جريمة ثم احتمى بهم على الله ورسوله؛ فإنه لا يقام عليه الحد إكراما لذوي الجاه منهم، أو لـما يبذلونه من مال؛ فقال ابن تيمية: "وذلك جميعه محرم بإجماع المسلمين"، ورأى أن أخذ أولئك القضاة المال لتعطيل الحدود يقوي طمع الظلمة، ويكسر حرمة القضاء، ويفسد الرعية، ويبقي الفساد قائمًا، وأن القاضي: "إذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد؛ ضعفت نفسه أن يقيم حدا آخر، وصار من جنس اليهود الملعونين".
ورأى ابن تيمية أن القاضي إذا ما عطل إقامة الحدود بجاه أو مال يأخذه؛ فقد أتى بضد المقصود من الولاية الذي هو إقامة العدل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار بمنزلة القواد الذي يأخذ المال ليجمع بين اثنين على فاحشة ونحوه، وذلك سبب نزول عقاب الله تعالى، وقد قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه».
وأما حقوق الآدميين فدعا ابن تيمية القضاة لإقامة العدل فيها في الدماء والأموال وغيرها، وذكر من صور الفساد في القضاء في الدماء: أن الفساد الحاصل في استيفاء الدماء عند أهل الجاهلية الخارجين عن الشريعة في وقته من الأعراب وأهل الحاضرة وغيرهم إنما سببه: "خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى"، فإنهم كانوا يعمدون إذا ما قُتل منهم رجل إلى قتل الكثير من أصحاب القاتل، أو قتل سيد القبيلة ونحوه؛ فبيَّن ابن تيمية للقضاة أن صلاح ذلك الفساد إنما يكون بالقصاص الذي كتبه الله علينا "وهو المساواة والمعادلة"، وأن يعلم أولئك وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم»، أي: تتساوى وتتعادل، فلا يفضل أمير على عامي، ولا قرشي على غيره، ولا عربي على عجمي، وأن ذلك حكم الله في دماء المسلمين، وخلافه ما عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود.
لا يحرم على الناس في المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه
- ابن تيمية
وأما الحكم في الأموال فقال: يجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله، ومن العدل فيها:
- قسمة المواريث بالشرع: دعا ابن تيمية القضاة إلى إقامة العدل في قسمة المواريث بين الورثة على ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وذلك من ابن تيمية بعد أن رأى أن كثيرا من الأعراب قد عادوا في قسمة المواريث إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من حرمان المرأة ميراثها، وأتبع ذلك بالدعوة لمنع المريض أن يخصَّ بعض الورثة بعطية أو وصية، أو نحو ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية، وما قد عاد إليه كثير من الأعراب لأن النبي قال: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث»، وابن تيمية في هذا إنما يصور حال الأعراب وغيرهم الذين عادوا إلى عادات أهل الجاهلية، ويصور فساد بعض القضاة في أقضياتهم معهم أيضا.
- العدل في الحكم في المعاملات المالية: وذلك كالإجارات والمشاركات، والوقوف والوصايا ونحوها، وقال ابن تيمية في هذا: "فإن العدل فيها هو قوام العالمين لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به"، ثم بيَّن للقضاة أن من العدل ما لا يخفى على عاقل كتحريم تطفيف المكاييل والموازين وغيره، ومنه ما هو خفي على العقول فجاءت شريعتنا أهلَ الإسلام ببيانه، وذلك كالمعاملات التي جاء النهي عنها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإنها كلها تعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم كأكل المال بالباطل الذي جاء تحريمه في كتاب الله تعالى، وأنواع البيوعات التي نهى عنها النبي كبيع الغرر، وبيع حبل الحبلة ونحوها، ثم وضع للقضاة قاعدة ضابطة لذلك فقال: "لا يحرم على الناس في المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه"، فيدخل في ذلك كل معاملة يتعارف الناس على التعامل بها؛ وإن لم يأت نصها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.