نعيش اليوم نحن -السوريين- من شتى المناطق ومن كل مكان في العالم نشوة نصرٍ لا قبله ولا بعده.. إذ كنا، وحتى قبل عشرة أيام، لا نجرؤ على هذا الحلم، كانت الأمور بالنسبة لنا قد حُسمت، وكل منا في مهجره يعيش حياته بشكل روتيني كالموت البطيء.
وإذ يتفاجأ جميع السوريين بمعركة "ردع العدوان"، التي انطلقت من إدلب العزة في الشمال السوري لتصل اليوم إلى العاصمة الحبيبة دمشق، بدأنا كعوائل سورية في غربتنا القسرية نتحدث ولأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمان عن كيفية عودتنا إلى وطننا وأوان ذلك!.
نعيش حالة نصرٍ لم نذق مثله على الإطلاق، بل إنه يعادل ذات القهر الذي عشناه منذ سنوات، على شكل نصرٍ عظيم. ولكن، لا بد أن نتوقف قليلًا لنتحدث عن الأسبوع التالي أو الفترة التي ستلي سقوط النظام؛ فهو قد سقط فعليًا، ومع ذلك لا ينبغي أن نغفل ونحن في نشوة الانتصار، عن التفكير في اليوم التالي.. فأمامنا معركة أخرى من نوع مختلف ولأسباب عديدة.
يعلم جميع من يتابع الوضع السوري منذ بدايته أن الفصائل التي تقاتل اليوم على الأرض السورية كثيرة، ومن خلفيات مختلفة وانتماءات متعددة، وهي ليست على وفاقٍ أبدًا
بدايةً، لا أريد أن يعتقد البعض أن الوضع السوري الآن يشبه الوضع الأوروبي، أو أن الأسد هو حامي الحمى بأي حال، إنما هناك عوامل كثيرة تجعلني قلقًا من اليوم التالي، أو على الأقل من المرحلة التالية.. ما أخشاه هو أن ندخل في معركة أمراء الحرب، أو حرب أهلية -لا سمح الله-؛ فمنذ بداية الثورة العظيمة والإعلام العربي يسمي ثورتنا بالحرب الأهلية، وكان هذا التوصيف ظالمًا بحق شعبٍ نهض وانتفض بوجه قاتله وسالب حريته وكرامته. لكنني أخشى أن الحرب الأهلية – وأتمنى أن أكون مخطئًا – لم تبدأ بعد، بل هي على الأبواب.
يعلم جميع من يتابع الوضع السوري منذ بدايته أن الفصائل التي تقاتل اليوم على الأرض السورية كثيرة، ومن خلفيات مختلفة وانتماءات متعددة، وهي ليست على وفاقٍ أبدًا. إنما هذا الالتحام أو التكاتف أو التنسيق، مهما كانت تسميته، فرض نفسه على الجميع لكون الفرصة التاريخية تستحق استغلالها، وهو ما حدث، حيث انتفض الجميع من مناطق سيطرتهم.
لدينا اليوم العديد من اللاعبين والعديد من الجبهات.. الجبهة الرئيسية هي جبهة "ردع العدوان" التابعة لإدارة العمليات العسكرية بقيادة هيئة تحرير الشام، التي انطلقت من إدلب، ثم غرفة عمليات "فجر الحرية" التابعة للجيش الوطني، التي انطلقت من مناطق درع الفرات في ريف حلب الشمالي والغربي، وهؤلاء يتبعون لتركيا بشكل كامل.
كما التحقت بهم غرفة عمليات "كسر القيود" من الجنوب السوري، وهذه الغرفة تضم فصائل كثيرة ليست على وفاق مع بعضها. وإلى جانب ذلك، هناك قوات سوريا الحرة التي انطلقت من منطقة التنف جنوبي شرقي سوريا على الحدود الأردنية- السورية، وهي قوات لا تتحرك إلا بأوامر أميركية صرفة.
يغيب الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة عن المشهد كليًّا، وهو من المفترض أن يكون الجهة السياسية الشرعية، بل أثبتت السنوات العجاف ضعف وفشل وفساد الائتلاف وغيابه عن المشهد السوري
إضافةً إلى كل ذلك، هناك قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي لسوريا، التابعة أيضًا للقوات الأميركية، وهؤلاء في خصومة مع كافة فصائل المعارضة، وبينهم ما صنع الحداد. كما أن هناك مجموعات محلية أخرى انضمت للمعركة، وقد أخذتها الحمية لمساندة الجبهات.. هذه المجموعات غير منتظمة، وتعمل من داخل المدن أو البلدات على شكل شبه خلايا.
مع وجود كل هؤلاء الفرقاء، ينتابني خوفٌ من الغد؛ فبمجرد سقوط النظام، سيبدأ كل طرف بحصد الغنائم والمناطق، وهنا سيبدأ الخلاف. وقد ظهرت هذه المؤشرات بالفعل في الأيام الأولى بين غرفة عمليات "ردع العدوان" و"فجر الحرية" في غرب حلب وشمالها، حتى تم التواصل بين الطرفين للتفرغ للنظام الآن، وكأن معركتهم الحتمية تأجلت قليلًا، وهذا يبدو منطقيًا الآن، فالأولوية هي إسقاط النظام.
لكن ما يزيد خوفي من هذا السيناريو هو أن كل هذه الجبهات والفصائل المنتشرة تفتقر إلى قيادة عسكرية موحدة ومرجعية سياسية تجمعهم؛ فلكل طرف حكومته الخاصة.. هيئة تحرير الشام لديها "حكومة الإنقاذ"، والجيش الوطني لديه "الحكومة المؤقتة"، وقوات سوريا الديمقراطية لديها "حكومة الإدارة الذاتية". ولا يوجد أي تواصل أو قنوات اتصال بين هذه الحكومات.
في الوقت نفسه، يغيب الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة عن المشهد كليًّا، وهو من المفترض أن يكون الجهة السياسية الشرعية، بل أثبتت السنوات العجاف ضعف وفشل وفساد الائتلاف وغيابه عن المشهد السوري.
سوريا اليوم أمام مرحلة جديدة؛ فإما حربٌ أهلية لا تبقي ولا تذر، أو أن يتدخل العقلاء – وهم كثر من السياسيين والوجهاء – لتشكيل حكومة انتقالية توافقية ترسو بسوريا وثورتها وشعبها على شاطئ الأمان
اليوم، ونحن ندخل دمشق والنظام المجرم يتهاوى، وأصوات التهليل تخرج من كل بيتٍ سوري، أجدني خائفًا على الثورة ومكتسباتها وتضحيات شبابها الأبرار الذين يقاتلون بكل شرف عن بلدهم.. أخاف على سوريا من ألا تخرج من عنق الزجاجة، وتبقى دولة فاشلة؛ إذ هي الآن منهارة اقتصاديًا بشكل مرعب، وبنيتها التحتية مدمرة. المطلوب من الجميع هو التكاتف لإعادة إعمار سوريا، وإعادة اللاجئين والمهجرين قسرًا.
لكن، كيف سيكون ذلك وجميع الأطراف تبدو وكأنها تتسابق للحصول على أكبر رقعة جغرافية لفرض نفسها على الطاولة غدًا بعد سقوط النظام؟
سوريا اليوم أمام مرحلة جديدة؛ فإما حربٌ أهلية لا تبقي ولا تذر، أو أن يتدخل العقلاء -وهم كثر من السياسيين والوجهاء- لتشكيل حكومة انتقالية توافقية ترسو بسوريا وثورتها وشعبها على شاطئ الأمان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.