كان ليلًا طويلًا، امتدّ حتى صار سنوات وسنوات، طغى فيه الظلم والظلام، وعمَّ القهر وفشا الطغيان، حتى ظن أناس أنه ليل لا نهار بعده، ثم في انعطافة للزمان يتغير المشهد، ووسط العتمة الطاغية تأذن إرادة الله الغالبة لخيوط الفجر أن تتسلل، لتذكرنا بحقيقة قوله تعالى: {حَتى إِذَا استَیـٔسَ الرسُل وَظَنّوا أَنَّهُم قَد كُذِبُوا۟ جَاءَهُم نَصرُنَا فَنُجِّي مَن نشَاء وَلَا یُرَدُّ بَأسُنَا عَنِ القَوۡمِ المُجرِمِینَ}.
من جديد بدأت للباطل جولة، عنوانها قتل بلا حسيب، وإجرام بلا رقيب، وبراميل متفجرة تحمل الإبادة والدمار، وتكديس للسوريين في زنازين سجون الطاغية
كأنه نفَس جديد لربيع قديم أراد الطغاة خنقه، فإذا بالحدث الحاضر ينبعث ليؤكد أن ثبات الربيع أقوى من غطرسة الطغيان، وتعيدنا الذكرى إلى بضع سنوات مضت، كانت بداياتها هتافاتٍ تنادي بالحرية، وخطواتٍ تسعى للانعتاق، وتصميمًا على كسر قيود الاستبداد والاستعباد.
حينها، هال القابع على كرسي الحكم في سوريا أن يجد الناس قد تمردوا على واقع الذل، ورفضوا الخنوع؛ فقد بدا له أن سياسة القهر التي خطها منذ زمن، وأجواء الإرهاب التي أحاط بها العباد والبلاد، لن تسمح للناس أن يكونوا إلا مصفقين لقوله، ممجدين لفعله، مباركين لخطوه.. فإذا بنسائم الربيع العربي التي طافت حينها البلدان تصل إلى سوريا فتنسف كل حسابات الطاغية، وتبطل كيده وسحره.
وأمام هول ما رآه، واهتزاز عرش سلطانه، أطلق جنده ليُسكتوا الهتاف بالرصاص، فإذا بالهتاف يزداد قوة، ويصير هديرًا، وعمت البلاد مسيرات حاشدة، تنادي أنه آن للظالم أن يرحل وللظلم أن يزول.. فكان القرار أن تتلاقى قوى البغي في الأرض، ويحتشد شذاذ الآفاق في الشام، ولعمري لست أدري، أدعاهم الطاغية ليحموا عرشه فأجابوا، أم استنفروه وساندوه ليبقى مطية لهم في تثبيت جذورهم في الأرض وسلب خيراتها، ونشر فسادهم وإفسادهم فيها؟
ومن جديد بدأت للباطل جولة، عنوانها قتل بلا حسيب، وإجرام بلا رقيب، وبراميل متفجرة تحمل الإبادة والدمار، وتكديس للسوريين في زنازين سجون الطاغية.. ومع تكالب قوى الشر كان لا بد للثورة أن تهدأ إلى حين، لتتعافى من بعض جراحها، وتعيد ضبط بوصلتها، وتنظيم صفوفها.
رأى الناس على الأرض حقيقة تنسف تلك الصورة التي رسمها نظام الحكم، وجد الناس من الآتين كلمات طيبة، وبسمات مُحبَّة، ولمسات حانية وسلوكًا حضاريًا راقيًا في حرصهم على أمن المواطنين
هدأت الثورة لسنوات لكنها لم تمت، بل بقيت جمرًا تحت الرماد!. وعندما حانت ساعة الصفر من جديد، انطلقت أسود الشمال من إدلب الأحرار، تزحف إلى حلب الشهباء، وتتابع سيرها إلى حماة الفداء، وتصل إلى أطراف حمص الأبية، حاملة إلى تلك المدن البشائر، ومعلنة أن حقبة الظلام إلى زوال، وتأتي أول ترجمة لتلك البشائر حقائق على الأرض مع تحرير آلاف المظلومين من سجون القهر، التي أمضوا فيها سنوات طويلة وعقودًا مديدة، لا لذنب إلا أنهم أرادوا الوصول إلى حياة كريمة وإنسانية مصونة.
تابعنا مشاهد لقاء الأحباب بالأحباب، وما أعذبه من لقاء! وعرفنا أن العيون تذرف الدموع فرحًا كما تذرفها بعد حزن، ومع المشاهد رددنا قول قائل: "والله لو كان إنجاز هذه المعركة الوحيد هو تحرير هؤلاء لكفى، من شمال البلاد إلى جنوبها تُكسر الأغلال، وتُحطّم أبواب سجون الرعب، ليعود النور إلى أعين ذاقت عتمة القهر والظلم لأعوام طويلة".. ونتأكد أن ما قيل ليس فيه مبالغة، عندما نتأمل عميق معنى قول سجين محرر: "كنت أنتظر منذ ثلاثة عشر عامًا، كنت أعدُّ الليالي، أحلم بالحرية التي كانت تتراءى كضوء خافت في نهاية نفق لا ينتهي، كنت أعيش على صوت خطوات تمر بعيدًا عن الزنزانة، أمنّي نفسي أن يكونوا هم، وها قد جاؤوا".
ودخل الثائرون المدن، وسرعان ما تهاوت دعاياتٌ عمِل نظام الأسد طويلًا وبدأبٍ على حبكها وصوغها، دعايات تخويف للناس من إرهاب يريد استئصالهم وهو يحميهم منه؛ فقد رأى الناس على الأرض حقيقة تنسف تلك الصورة التي رسمها نظام الحكم، وجد الناس من الآتين كلمات طيبة، وبسمات مُحبَّة، ولمسات حانية.. وجد الناس من الآتين سلوكًا حضاريًا راقيًا في حرصهم على أمن المواطنين، وسلامة المؤسسات، وحُسن سير شؤون البلدات والمدن.
لم غريبًا والحال هذه أن يُستقبل الثائرون بالزغاريد والترحاب، وأن تحيطهم دعوات من قلوب صادقة بأن يؤيدهم الله، وأن يبارك تحركاتهم وخطاهم، ولم يكن غريبًا أن نسمع التصريحات بأن الذي يجري ينتظره الناس منذ زمن طويل، يؤكد ذلك قول سيدة: "والله غصة كانت في قلوبنا والله فرَّجها.. الحمد لله.. الحمد لله.. الله يرضى عنكم ويجبر خاطركم، جبرتم خاطرنا"، ويلاقيه قول آخر: "كنت أنتظر دخولكم، لم أفقد الأمل يومًا، وأعلم أني سأقول يومًا: الله أكبر".
أتى الفجر ليس كأي فجر سبق، يوم الأحد دون الأسد، التكبيرات تعلو في المآذن، وترتج بها جنبات المسجد الأموي، فرحة الناس وصلت إلى حد الذهول، فقد طال انتظارهم لهذا اليوم، ثم أتاهم حاملًا لهم من الغبطة والهناء أضعاف ما انتظروا
لم تكن قد مضت إلا أيام معدودة حين تحركت غيرة الجنوب من الشمال، فقد آن للأحرار أن يلاقوا الأحرار.. تجددت ثورة درعا، وحق لها ذلك وهي مهد الثورة الأولى، وتناغمت معها سويداء الكرامة، ولاقتهما قنيطرة الإباء، وهبت مدن ريف دمشق من سباتها.
لم يعد تتابع الأخبار العاجلة بالساعات، بل صار بالدقائق، ومع كل بشرى بانتصار ثائر يأتي خبر عن سقوط طاغوت بائد، وتهاوت من ساحات المدن صور وتماثيل الأب والابن، بعدما نُصبت وظن أهلها أنها باقية لا تزول.. واكتمل الطوق حول عاصمة الأمويين دمشق، إيذانًا بقرب نهاية حقبة الظلم والقهر، وانبلاج فجر جديد، وكان فجر يوم الأحد ميلادًا جديدًا لسوريا وللسوريين.
أتى الفجر ليس كأي فجر سبق، يوم الأحد دون الأسد، التكبيرات تعلو في المآذن، وترتج بها جنبات المسجد الأموي، فرحة الناس وصلت إلى حد الذهول، فقد طال انتظارهم لهذا اليوم، ثم أتاهم حاملًا لهم من الغبطة والهناء أضعاف ما انتظروا، وقد صدق فيهم قول الشاعر:
وتشاء أنت من البشائر قطرة .. ويشاء ربك أن يغيثك بالمطر
وتشاء أنت من الأماني نجمة .. ويشاء ربك أن ينـاولك الـقمر
أتى الفجر حاملًا إعلان بدء مسيرة جديدة، وروعة البداية تبشر بأن القادم من الأيام حافل بالمسرات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.