كان يوم الأربعاء 27/11/2024، يوم إطلاق معركة "رد العدوان"، يومًا فارقًا في تاريخ سوريا الحديث؛ يومًا سيكون له الكثير من التبعات والارتدادات، التي قد تكون – وهذا ما نرجو ونأمل – إيجابية معبرة عن شوق السوريين للعيش بكرامة وحرية، ومزهرة بشوقهم لسوريا أن تعود كما كانت في التاريخ، منارة للعلم ورمزًا للحضارة والعراقة، أو قد تكون -لا قدر الله – بداية مرحلة جديدة وخطيرة من التشظي والتدمير والتفتيت، لتدخل سوريا ما يمكن تسميته نموذج غزة، والذي قد يعمم في منطقتنا للهيمنة على مقدراتها والتحكم بشعوبها، وإعادة برمجتها عقديًا وفكريًا وأخلاقيًا في مرحلة تعميم الشذوذ وفرضه وبأشكاله المختلفة، الجنسية والأخلاقية والقيمية والسياسية والفكرية.
سوريا اليوم على مفترق طرق، والسوريون وحدهم وبوحدتهم وتفانيهم قادرون بإذن الله على استنقاذ وطنهم وصونه والحفاظ عليه، والتعامل مع الآخرين بروح الندية والمصالح المشتركة، لا الدونية والتبعية والقبول بالفتات وبتحقيق المصالح الشخصية أو الحزبية أو الفئوية
كان تهاوي النظام عسكريًا أمرًا لافتًا، ذكّر الكثيرين بما حدث في أفغانستان، حيث انهار الجيش الأفغاني بعد مليارات التسليح الأميركي وسنوات الإعداد والتدريب بشكل سريع وغير متوقع.
بطبيعة الحال، انهيار جيش نظام الأسد – وربما لاحقًا مؤسسات النظام- بهذه السرعة له أسباب كثيرة؛ منها الفشل الكبير في إدارة الدولة والمجتمع، والوضع الاقتصادي الصعب ليس بسبب العقوبات الاقتصادية فحسب، ولكن بسبب طبيعة الفساد المتأصل في النظام، إضافة إلى انشغال الحلفاء الرئيسيين – موسكو وطهران – واستنزاف مقدراتهم، وفشل النظام بالتصدي للاعتداءات الإسرائيلية، والتعايش معها بخنوع ورضوخ.
غير أن من أهم الأسباب بتقديري تآكل النواة الصلبة للنظام؛ فرامي مخلوف تحول من سند للنظام إلى خصم، واختفت أسماء الأخرس، وهلكت لونا الشبل، وجرت تصفيات وإقصاءات عديدة.
الأحداث المتسارعة والتطورات المتلاحقة وحّدت صفوف المتخاصمين؛ فمحور "الاعتدال" العربي وخصمه الإيراني، ومعه ما يسمى بمحور المقاومة، وقفوا داعمين لبشار وبشكل مبتذل، على الرغم من أن النظام أغرق بعض دول الاعتدال بالمخدرات، وانتهك سيادة بعضها بشكل فج ومتكرر.
هذه المواقف المعادية للشعب السوري، والمتجاوزة على حريته وكرامته وتطلعه للعيش في وطنه كريمًا محفوظ الحقوق، تستدعي من السوريين التوقف مليًا، والإصرار على استرداد القرار السوري، وانتزاعه من يد العابثين والباحثين عن المصالح والنفوذ ونهب المقدرات والثروات على حساب السوريين وحاضرهم ومستقبل أطفالهم.
سوريا اليوم على مفترق طرق، والسوريون وحدهم وبوحدتهم وتفانيهم قادرون بإذن الله على استنقاذ وطنهم وصونه والحفاظ عليه، والتعامل مع الآخرين بروح الندية والمصالح المشتركة، لا الدونية والتبعية والقبول بالفتات وبتحقيق المصالح الشخصية أو الحزبية أو الفئوية.
وإذا كان المشهد السوري في السنوات العجاف الماضيات قد شهد فقرًا وافتقارًا في السياسة طرحًا وحضورًا من النظام بطبيعة الحال، حيث التعامل بروح المافيا والعصابة الإجرامية، ومع كل الآسف من جانب المعارضة أيضًا، والتي شهدنا فيها تسابقًا على المناصب والمغانم والمصالح الشخصية والطموحات المريضة، فإن الحالة السورية الراهنة لا تحتمل مثل هذه الأمور، وتستدعي نكرانًا للذات، وتقديمًا للمصلحة العامة على الخاصة، والتعامل مع الأحداث بتفانٍ وصدق وإخلاص.
التحول السلمي، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وإطلاق ميثاق عهد ووفاء وأمن وأمان لجميع الطوائف والشرائح والأعراق في سوريا، والتعهد بعدم إقصاء الكفاءات السورية من المشاركة في بناء سوريا على خلفيات الانتماءات، هو السبيل لإنقاذ سوريا
بتقديري، يتوجب علينا جميعًا استخلاص الدروس والعبر مما مضى سياسيًا وعسكريًا وميدانيًا، وإذا كانت عملية رد العدوان شهدت بشكل عام انضباطًا عسكريًا، وتعاملًا إنسانيًا يليق بمن يرفع شعارات الحرية والكرامة، فإننا نرجو أن يكون هذا نهجًا مستمرًا ومنهجًا دائمًا وليس مرحليًا أو مؤقتًا، خصوصًا أن شخصيات بارزة – ومنها الجولاني- تعاملت مع قطاعات من السوريين ممن كانوا تحت نفوذها بسطوة وفظاظة وقسوة، نرجو ألا تتكرر.
بتقديري، نحتاج إلى تجمع سياسي يشمل جميع التوجهات والتيارات الفاعلة على الساحة السورية، يقدم نفسه كجسم مؤقت يتعهد أصحابه مع قادة الحراك العسكري الحالي باعتزال العمل السياسي تمامًا بعد انتهاء مرحلة مؤقتة لا تتجاوز العامين، وبعد المشاركة في الإشراف على انتخابات حرة ونزيهة.
قبل هذه المرحلة يوجَّه بشكل مشترك، عسكريًا وسياسيًا، خطابٌ ومناشدة إلى قادة الجيش السوري وإلى مسؤولي الدولة بالانضمام إلى حراك التغيير (السلمي)، مع إصدار عفو عام لا يشمل بشار الأسد وعصابته الأساسية، ولا من تلوثت أيديهم بدماء الأبرياء.
التحول السلمي، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وإطلاق ميثاق عهد ووفاء وأمن وأمان لجميع الطوائف والشرائح والأعراق في سوريا، والتعهد بعدم إقصاء الكفاءات السورية من المشاركة في بناء سوريا على خلفيات الانتماءات، هو السبيل لإنقاذ سوريا، والتوقف عن سفك المزيد من الدماء، والحفاظ على وحدتها، والانطلاق بها في مرحلة النهوض والتعمير.
سوريا لن تنهض إلا بخطاب وحدوي تسامحي، لا يحاسب مجموعة أو جماعة على جرائم أكابر مجرميها ونهبهم.. سوريا تحتاج الآن إلى أن يقودها المخلصون الصادقون الذين يعشقونها ويسعون لعزتها، ويقدمون في سبيل ذلك الغالي والنفيس.
من الحكمة فتح قنوات الحوار مع دول الجوار، ومع اللاعبين الأساسيين من الدول على الساحة مع استثناءات محدودة للغاية؛ فالسياسة يقودها من يفكرون بعقولهم وبالمصالح البعيدة والإستراتيجية، وليس من تحكمهم وتتحكم بهم عواطفهم مهما كانت صادقة، أو مشاعرهم وإن كانت نبيلة.
سوريا على مفترق طرق كبير وخطير، وآثاره قد تمتد لعقود وعقود!
البديل الآخر أن تبقى سوريا ساحة للمتنافسين من اللاعبين الإقليميين والدوليين كما هي الآن، وبطريقة أعمق وأسوأ، وأن يبقى بعض السوريين من السياسيين والعسكريين أدوات بيد هذا النظام وأجهزته الأمنية، أو بيد تلك الدولة.. نخشى أن تدخل سوريا في إطار الغزغزة (المنهج الإجرامي المطبق في غزة.. تدمير شامل، وإبادة، ومساعٍ لتغيير ديمغرافي)، خصوصًا أن العالم تعايش مع ما يحصل في غزة منذ أكثر من عام.
لا يبالي الإيراني ولا الأميركي ولا الروسي ولا الإسرائيلي ولا كثير من العرب في أن تدمر سوريا على بكرة أبيها أو أن يفنى شعبها، إن كانت مصالحهم المادية والسياسية وأحقادهم الأيديولوجية تستدعي ذلك، ليبيعوا أسلحتهم، وليدمروا البلاد، ثم بعد أن يتعب الجميع تبدأ شركات الإعمار والمصالح التجارية التابعة لهم ليعمروا بأموالنا ما دمروه أيضًا بأموالنا.
سوريا على مفترق طرق كبير وخطير، وآثاره قد تمتد لعقود وعقود!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.