شعار قسم مدونات

مربعات سكانية تختزل وجه المأساة

الدمار في المنازل والأسواق والبنى التحتية جراء القصف الإسرائيلي على مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة
كل شيء في غزة أصبح هدفًا للإبادة آلاف المربعات السكنية دُمرت ضمن سياسة إسرائيلية ممنهجة (الجزيرة)

مجموعة من الجنود يقفون أمام الكاميرا، يقومون بحركات استعراضية وبهلوانية، يضحكون بهستيريا بينما يمسك أحدهم بأداة تبدو كأداة للتفجير.

في الخلفية مجموعة من المنازل أو ما يطلق عليه اصطلاحًا "مربع سكني"، منازل شيدها أصحابها، ويعرف الغزيون كيف يُشيد أحدهم بيته في بلد يطوقه الحصار منذ ما يقارب العشرين عامًا، تخللتها حروب وتصعيدات لم تتوقف.. يُشيد الغزي بيته بدماء قلبه حجرًا حجرًا، قد يستغرق الأمر سنوات. بين جدرانه يضغط الجندي على المقبس، ينفجر المربع السكني فتتناثر أجزاؤه كبركان هائج، وتتهاوى معه أحلام وسنوات كَد، يرى الفلسطيني شقاء عمره ينهار أمام مرآه، بينما يقف الجندي مبتسمًا أمام الكاميرا مهديًا هذا الجنون لصديقته المقيمة في الولايات المتحدة، أو أحد أقربائه المقيم في بولندا.

سماع الصافرة كفيل بجعلك تتوقع أسوأ كوابيسك، صافرة ثم انفجار يهز أركان المكان، وكأن نيزكًا ما اصطدم بالأرض!

عبر إحدى القنوات الإخبارية يقحم شريط أحمر الشاشة، تعتليه عبارة "خبر عاجل"، لقد دمرت آلة القتل الجماعية مربعًا سكنيًا، وطوته على رؤوس ساكنيه كما تُطوى كتب التاريخ، عشرات العائلات أصبحت في فعل الماضي، وهي حقيقة يصعب تصديقها رغم ما تمتلكه قلوبنا من إيمان.. كيف يصبح كل شيء عدمًا؟ وكيف يتحول مربع سكني يمتلئ بالحياة إلى دمار؟

ولك أن تتخيل المشهد.. منازل تفوح منها رائحة طعام شهي، رغم قلة ما يدخل غزة من غذاء، إلا إنه أُعد بأيدي الأمهات، فكيف لا يكون شهيًا؟! وصرخات أطفال يلهون بين أزقة البيوت، وباعة جوالون، وكبار سن يجلسون على أعتاب المنازل كمن يحرسها، يتبادلون الأحاديث، ويقطع حديثهم الدافئ صوت يعرفونه جيدًا، صوت لم يألفوا رعبه رغم اعتياد سماعه منذ بداية الحرب، صوت لا يمكن نقله بالكتابة، ولكن يمكن اختصاره بأنه صوت الموت، صوت ينشر الفزع ويثير الهلع، صوت صافرة الصاروخ.

سماع الصافرة كفيل بجعلك تتوقع أسوأ كوابيسك، صافرة ثم انفجار يهز أركان المكان، وكأن نيزكًا ما اصطدم بالأرض!. تتناثر الحجارة وشظايا الانفجار من كل جانب، تندفع كفيضان يجتاح أركان المكان فيكسوها بالرماد والرمال، وسرعان ما تلف المكان سحابة من الدخان الكثيف، تتخبط بين أروقة المكان ككفيفٍ لا يهتدي على شيء، تخترق مسمعيك أصوات لناجين عالقين يتوسلون المساعدة.. صوت من هنا، وصوت من هناك.

آلاف من الفيديوهات، تشمل تفجير منازل، وتنكيلًا بمدنيين عزل، واستخدام جزء منهم كدروع بشرية لاكتشاف الأنفاق، دون أن يحاسب أصحابها على أفعالهم، بينما يُجبر الفلسطيني على تبرير مقاومته لمحتله

تخفت الأصوات اليائسة، فتنزاح سحابة الدخان كاشفة عن مشهد مهيب من الخراب والدمار.. أشلاء أجساد متناثرة، وبقايا ملابس وأحذية أطفال مبعثرة، ومنازل تحولت إلى كومة حجارة وكأنها لم تكن!. منذ بداية الحرب دُفنت عائلات كاملة بين جدران منازلها، ما كان بالأمس بيت أمن تحول إلى قبرٍ جماعي يحوي من الأحبة كثيرين.

إعلان

على مدار عام كامل، أصبحت عبارة "مربع سكني" رمزًا للإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق الغزيين، فلا تسمع عبارة مربع سكني إلا مصحوبة بقصف ومجزرة، وعمليات نسف جماعية.

معادلة جديدة أرستها هذه الحرب بأن كل شيء مستباح، ولا استثناء لأحد؛ فلا المستشفيات ولا مؤسسات الإغاثة ولا شاحنات نقل المساعدات سلمت.. كل شيء هنا هدف للإبادة، آلاف المربعات السكنية دُمرت ضمن سياسة ممنهجة، عنوانها إعادة غزة إلى العهد الحجري، وهي سياسة لا يخجل قادتهم من التصريح بها علنًا، بينما يتغاضى العالم المتحضر عن فظائعهم في وقت يتفاخر فيه جنود الاحتلال بتفجير منازل الفلسطينيين، بنشر محتوى تفجيرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

آلاف من الفيديوهات، تشمل تفجير منازل، وتنكيلًا بمدنيين عزّل، واستخدام جزء منهم كدروع بشرية لاكتشاف الأنفاق، دون أن يحاسب أصحابها على أفعالهم، بينما يُجبر الفلسطيني على تبرير مقاومته لمحتله، جرائم حرب أكدت إسرائيل مجددًا خلالها بأنها فوق جميع المعاهدات والمواثيق والقوانين الدولية والإنسانية، وأن لا شيء يردعها عن الاستمرار بجرائمها بالوتيرة الدموية ذاتها لأكثر من عام.

تُرك الغزي وحيدًا يصارع أعتى آلات الحرب، بينما يدير العالم له ظهره، يستبسل حتى النهاية أملًا بالبقاء في صراع وجودي لا تتساوى فيه القوى، يستبسل دفاعًا عن حقه في الحياة بكرامة

ومع استمرار سياسة التدمير، كانت حارتي من ضمن المربعات السكنية التي نسفت، بعد أن طالتها الأحزمة النارية من كل جانب.. سُوِّي بنيانها بالأرض، لم يبقَ من حي الزيتون سوى اسمه، استباح الجنود منازل الحي، عبثوا بمحتوياتها وأحرقوا جزءًا كبيرًا منها بعد أن عاثوا فيها فسادًا، دُمرت حارات الحي، وقُتل العديد من أهله ممن صمدوا داخل الحي، بينما قُتل بعضهم الآخر بعد اتجاههم إلى مناطق ظنوا أنها آمنة حسب تعريف الجيش لها، ولكنها كانت أشبه بكمائن الموت، يجرب الاحتلال عليهم أحدث صواريخه، فيقتلهم حرقًا تارة، ويذيب أجسادهم تارة، ويحولهم إلى أشلاء ممزقة تارة أخرى.. يؤلمني تحوُّل الغزي إلى حقل تجارب لمواد متفجرة تصهر المعادن، وكيف تحملت أجسادهم كل تلك العذابات.

في هذه الحرب، تُرك الغزي وحيدًا يصارع أعتى آلات الحرب، بينما يدير العالم له ظهره، يستبسل حتى النهاية أملًا بالبقاء في صراع وجودي لا تتساوى فيه القوى، يستبسل دفاعًا عن حقه في الحياة بكرامة، حق لا يمنح بل يُنتزع، ولأجله قدم الكثير.

وإلى أن ينتزع هذا الحق ستبقى هذه البقعة منطقة صراع مشتعلة، ولن يعيش بهناء من ارتضى المذلة للفلسطيني، من راهن على سقوطه، من كان أداة لإسرائيل في تجويع غزة وحصارها لكسر صمود أبنائها، من هب لنجدة إسرائيل وأدار ظهره لآهات الثكالى في غزة.

وإلى أن تُرد الحقوق إلى أصحابها، سيبقى الفلسطيني راسخًا ومتجذرًا في أرضه، كشجرة زيتون معمرة على ثرى أرضٍ مباركة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان