مع بدايات القرن الـ21، ومع بدء انتفاضة الأقصى، برزت بقوة الدعوة لمقاطعة المنتجات الصهيونية ومنتجات الشركات والدول المؤيدة للكيان الصهيوني. وعلى مدار ما يقارب ربع قرن من الزمان، تجددت الدعوة للمقاومة مرات عديدة، من بينها الدعوة لمقاطعة المنتجات الدانماركية والفرنسية، بسبب الإساءة لخير البرية محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، ومع بدء العدوان الصهيوني على أرض غزة ردًا على عملية طوفان الأقصى، تجددت الدعوة للمقاطعة مرة أخرى.
المقاطعة هي تضحية بسيطة من قبل المشتري، حيث إنه يضحي بالتخلي عن قليل من احتياجاته، مقابل أن يشعر أنه قام بعمل بسيط تجاه المظلومين الذين لا يستطيع أن يقدم لهم أي نوع آخر من المساعدة
في كل مرة تبرز الدعوة للمقاطعة يتبارى البعض للتشكيك في جدوى هذه المقاطعة، ويؤكدون أنها غير مهمة وغير مؤثرة، وأنها تضرُّ الاقتصاد الوطني أكثر مما تفيد الفلسطينيين، بل إن الأمر لا يقتصر على التشكيك، وإنما تعدى إلى الهجوم على دعاة المقاطعة واتهامهم بكثير من الاتهامات، لا يتسع المجال لذكرها أو للرد عليها؛ فالحديث عن المقاطعة قد يطول، ولن تكفيه عشرات الصفحات، ولكني أردت في هذا الموضوع التنويه باختصار إلى عدة نقاط بسيطة وسريعة.
المقاطعة أقل المتاح
إن المقاطعة هي تضحية بسيطة من قبل المشتري، حيث إنه يضحي بالتخلي عن قليل من احتياجاته، سواء كانت ضرورية أم رفاهية، مقابل أن يشعر أنه قام بعمل بسيط تجاه المظلومين الذين لا يستطيع أن يقدم لهم أي نوع آخر من المساعدة، في ظل حالة الضعف والهوان التي تعيشها الأمة.
ولذلك فإن هذا العمل اليسير لا ينبغي التقليل أو السخرية منه، فلربما يكون منجاة للمرء من موت القلب أو تغييب الضمير، كما أنه في المقابل إخطار للواقعين تحت الظلم أن هناك من يشعر بهم وبآلامهم ومعاناتهم، ومع أنه لا يملك شيئًا من أدوات الفعل فإنه فعل ما يمكنه، وتخلى عن بعض احتياجاته ورغباته التي يشتريها بأمواله؛ تضامنًا معهم.
حينما يشرح الوالد لابنه أننا لا نشتري هذه المنتجات، لأن ما ندفعه فيها يذهب إلى الشركات التي تقدم دعما ماليًا أو عينيًا للجيش الذي يقتل ويحرق أطفال فلسطين، ويدمر منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم، فهو بهذا الأمر يزرع فيه فكرة مهمة
المقاطعة وإبقاء الفكرة حيّة مشتعلة
وبخلاف ما ذكر، فإن المقاطعة هي وسيلة للمحافظة على حيوية الفكرة وأهمية القضية؛ فقضية مثل قضية فلسطين يتم تشويهها على مدار الساعة، وبشكل كثيف ومستمر منذ عقود طويلة، ومع التطور الإعلامي والتكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، نجح العدو وأعوانه في تهميش تلك القضية بشكل كبير، وجعلها قضية ثانوية، بل أقل من ذلك، حتى إن الأجيال الناشئة لا تعرف شيئًا عن تلك القضية، ولا أهميتها للمسلمين والعرب.
وهنا تأتي أهمية المقاطعة في أنها تفتح حوارًا بين أفراد المجتمع، بل بين أفراد الأسرة نفسها؛ فحينما يوجه الأب والأم أبناءهما إلى عدم شراء كذا وكذا، والاستبدال به كذا وكذا، سيواجهان من أبنائهما بالتأكيد هذا السؤال: لماذا؟!. وهنا سيقوم صاحب التوجيه بذكر السبب، وشرح الأمر بما يناسب عمر المتلقي وثقافته، ومدى استيعابه للفكرة والكلمات، وهكذا تنتقل الفكرة من جيل إلى جيل ومن فرد إلى فرد ومن طفل إلى طفل.
حينما يشرح الوالد لابنه أننا لا نشتري هذه المنتجات، لأن ما ندفعه فيها يذهب إلى الشركات التي تقدم دعمًا ماليًا أو عينيًا للجيش الذي يقتل ويحرق أطفال فلسطين، ويدمر منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم، فهو بهذا الأمر يزرع فيه فكرة مهمة، ويرسخ في ذهنه صورة مهمة عن القضية.. ولعل كثيرين منا لا يزالون يتذكرون كيف بدأ اهتمامهم بالقضية الفلسطينية، وأنها كانت عبر أمر كهذا أو ما يشابهه.
ومن نطاق الأسرة الضيق إلى فضاء المجتمع الرحب، هكذا أيضًا تتناقل الفكرة؛ فالعامل أو الموظف عندما يتحدث مع زميله في أنه توقف عن شراء كذا وكذا بسبب أنها منتجات لشركات داعمة للحرب على الفلسطينيين أو غيرهم من المسلمين، أو صاحب البقالة عندما يقول للمشتري عندي كذا وكذا، فيقول له المشتري لكنها منتجات مقاطعة، كل هذه نقاشات وحوارات تساهم في إبقاء القضية حية والفكرة مشتعلة في الصدور، فلا تموت القضية بسهولة، ولا تُنسى وسط كثرة المشاغل أو شراسة الحرب الإعلامية لتشويهها.
لا ينبغي للبعض أن يقلل من أهمية هذه الرسالة الشعبية، أو يدعي ويزعم أن الأعداء لا يهتمون بها، فهذا كذب عظيم وبهتان مبين، فالأعداء يخشون كل الخشية من هذه الشعوب
المقاطعة والرسالة الشعبية
ومن أهمية المقاطعة أيضًا، وخاصة في ظل القبضة الأمنية في كل الدول العربية والإسلامية تقريبًا، أنها سلاح شعبي لا يمكن التحكم فيه ولا القضاء عليه، ولا تتبع القائمين عليه.
وبينما حالة السكون السياسي ترسل رسائل للأعداء بأن الشعوب قد استسلمت وباعت القضية، فإن المقاطعة الاقتصادية هي رسالة تلك الشعوب وكلمتها الحاسمة بأنها لم تبع القضية ولم تتخلَّ عنها، وأنها غير راضية عن المواقف الرسمية السيئة.. هي رسالة بأن الشعوب لا تزال حية، ولا يزال قلبها ينبض وصدرها يشتعل نارًا لما يحدث، وأنه لو كان الأمر بيدها لما تجرأ الأعداء على فعل ذلك تجاه إخوانهم.
ولا ينبغي للبعض أن يقلل من أهمية هذه الرسالة الشعبية، أو يدعي ويزعم أن الأعداء لا يهتمون بها، فهذا كذب عظيم وبهتان مبين، فالأعداء يخشون كل الخشية من هذه الشعوب، ويدرسون كل حراك أو سجال، حتى الصمت يدرسونه ليعرفوا أسبابه وخلفياته والمتغيرات المتحكمة فيه، ومدى استمراره، وما الذي قد يكسر هذا الصمت ويحرك تلك الشعوب الساكنة.
تراجع الدخل التشغيلي لشركة كوكاكولا في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا بنسبة 14% في الربع الثالث مقارنة بالربع المقابل من السنة الماضية (من 1.15 مليار إلى 977 مليون دولار)
المقاطعة والأثر الاقتصادي
بالعودة إلى الأثر الاقتصادي للمقاطعة، ومع كل محاولات التقليل من أهميتها وآثارها، فإن النتائج الحقيقية تثبت أن المقاطعة كان لها تأثير اقتصادي ليس بالهين، ومنه على سبيل المثال ما يلي:
- تراجع مبيعات سلسلة متاجر القهوة الأميركية "ستاربكس" بنسبة 7% خلال الفترة بين يوليو/ تموز وسبتمبر/ أيلول 2024، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، كما انخفض ربح الشركة لكل سهم بنسبة 25% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
- شركة أميركانا للمطاعم -حاصلة على امتياز سلاسل عالمية، أبرزها بيتزا هت وكنتاكي- ذكرت أنه خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي انخفض صافي أرباحها بنسبة 48.2%، ورغم أنها حاولت إرجاع الانخفاض إلى أسباب مختلفة، فإن المقاطعة تبقى سببًا رئيسيًا في ذلك.
- تراجع الدخل التشغيلي لشركة كوكاكولا في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا بنسبة 14% في الربع الثالث مقارنة بالربع المقابل من السنة الماضية (من 1.15 مليار إلى 977 مليون دولار).
- انخفاض الأرباح التشغيلية المحققة لشركة بيبسيكو (بيبسي) من الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا إلى 197 مليون دولار بعد أن كانت 238 مليونًا في الربع المقابل في السنة الماضية، أي بنسبة 17% تقريبًا.
- كما أعلنت مجموعة ماجد الفطيم – وكيل العلامة التجارية العالمية كارفور- أنها قررت وقف جميع عمليات كارفور في الأردن اعتبارًا من يوم الاثنين 4 نوفمبر/ تشرين الثاني، وجاء ذلك أيضًا بسبب المقاطعة.
هذا غيض من فيض، والأيام والشهور المقبلة ستكون حبلى بالكثير من المفاجآت في هذا الإطار، وستبقى المقاطعة سلاحًا شعبيًا فاعلًا للتعبير عن الغضب الشعبي والرفض الشعبي لسياسات الأعداء والمواقف الرسمية المخزية.. فالمقاطعة ليست مجرد رد فعل، بل هي إحياء قضية وتربية أجيال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.