مجمع المحدث بدرالدين الحسني ذلك الصرح العظيم الذي ما رأيت مثله حسب علمي، معهد فريد بتركيبته، ومدرسة نادرة بمنهجها بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، معهد جمع لنا جُلّ مدارس الإسلام في مدرسة واحدة، دون أن يمزجها أو يغيرها أو يقصيها، بل كانت كل مدرسة من تلك المدارس تجود بأفضل ما عندها، ولا تنسلخ عن أمّها وصبغتها وجذورها.
إنّ مجمع الشيخ بدر الدين الحسني هو النموذج الصحيح لشكل التديّن (إن صحّت التسمية) في كل سوريا، بما يُعرف عنها من التسامح والوسطية والمودّة والتعايش والانسجام، لذلك كانت سوريا قبلة طلّاب العلم في العالم الإسلامي
لقد جمع معهد الشيخ المحدّث بدر الدين الحسني بدمشق منذ نشأته كبار شيوخ وعلماء دمشق، ولا أبالغ إن قلت: شيوخ سوريا والعالم الإسلامي، والأجمل من ذلك أنه ضمّ بين جناحَيه مشارب ومدارس عدّة، ولا يمكن لأيّ مجمع أو مؤسسة الجمع بين كل تلك المدارس والمناهج العلمية والتربوية المختلفة.
فتجد، مثلًا، أنه درّس في هذا المعهد شيخ السلفية، المحدّث عبدالقادر الأرناؤوط (رحمه الله تعالى)، وعلى الطرف المقابل درّس فيه شيخ الصوفيّة، العالم عبدالرحمن الشاغوري (رحمه الله تعالى). بل إنه أيضًا جمع شيوخًا يُدرّسون علومًا مختلفة، مع أنهم ينتمون إلى طرق صوفية مختلفة كالطريقة النقشبندية والطريقة الشاذلية، وغيرهما.
والمعروف أنّ منهج هذا المعهد هو المنهج الشافعي، ومع ذلك تجد فيه شيوخًا من غالب مذاهب الإسلام، فتجد شيخ قراء الشام الشيخ الحافظ محمد كريِّم راجح (حفظه الله تعالى) يدرّس في المذهب الشافعي، وتجد الشيخ أنس النص يفيد في المذهب الحنفي، والشيخ عبدالقادر الأرناؤوط يتبع الدليل دون أن يتقيد بمذهب من المذاهب، وكذلك العديد من الذين تخرّجوا في معهدنا وقَدِموا من بلاد المغرب العربي، درّسوا فيه وأفادوا وكانوا من المالكية.
كما تجد بين الشيوخ الذين درّسوا في المعهد ممن نشؤوا على الطريقة المشيخية التقليدية القديمة – أي المنهج المسجدي – كفضيلة الشيخ محمد شقير، شيخ حي الميدان بدمشق وتلميذ الشيخ المجاهد حسن حبنكة الميداني (رحمه الله تعالى)، وعلى الطرف الآخر كان يُدرّس الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي، شيخ الكتابة وأستاذ التآليف (رحمه الله تعالى) والذي كان مُتّبعًا للطريقة الأكاديمية العلمية المعروفة.
لقد كانت إدارة معهد الشيخ بدر الدين الحسني تختار الرأس والتاج والمُتصدّر في كلّ علم، فكان في المعهد شيخ القرّاء الشيخ كريِّم راجح (حفظه الله)، وشيخ المحدثين الشيخ الأرناؤوط (رحمه الله)، وشيخ العربية الشيخ أنور الشويكي (رحمه الله)، والشيخ أنس عبود، وشيخ الأدب الشيخ هشام الحمصي (رحمه الله تعالى)، وشيخ الفرائض الشيخ هشام الصلاحي (حفظه الله)، وشيخ التربية الشيخ الشاغوري (رحمة الله عليه)، وشيخ الخطابة الشيخ عبدالله رابح (رحمه الله)، وشيخ الأصول الدكتور الزحيلي (رحمه الله)، وأستاذ الشعر والعروض الأستاذ مصطفى عكرمة، وغيرهم من رموز العلوم الإسلامية والعربية.
إن الذي جمع كل هذه الأزهار الفواحة بعطورها الزكية العبقة وألوانها المختلفة، في حديقة واحدة غنّاء وارفة، بعد توفيق الله وعونه وتسديده، هو منهج الاعتدال والوسطية، الذي كان الصفة المميزة الأسمى لمعهدنا عن باقي المعاهد الشرعية في سوريا.
إنّ مجمع الشيخ بدر الدين الحسني هو النموذج الصحيح لشكل التديّن (إن صحّت التسمية) في كل سوريا، بما يُعرف عنها من التسامح والوسطية والمودّة والتعايش والانسجام، لذلك كانت سوريا قبلة طلّاب العلم في العالم الإسلامي.
أرجو الله تعالى أن تعود أيام معهد الشيخ بدر الدين الحسني كسالف عهده، يَغصّ بالعلماء والطلاب، لا كما آلت إليه حاله الآن، فنظام الظلم قد ولّى، وجميع أزلامه وأدواته وأذنابه سيرحلون لا محالة
ومن الواجب والوفاء ألا ننكر دور مدير المجمع والمعهد آنذاك، فضيلة الشيخ عبدالله دك الباب، الذي كان له الفضل الكبير واليد الطولى في جمع تلك الثلّة من العلماء، ودعوة تلك البحار الغنيّة لتصبَّ في محيط واحد، يغترف منه طلّاب العلم من جميع بلاد العالم، لينهلوا من معين العلوم والوسطية والتربية والحياة في هذا المعهد الطيب المعطاء.
فجزى الله عنّا شيوخنا الكرام الذين علّمونا وأدّبونا وصبروا علينا خير الجزاء، لا سيما شيخنا الفاضل عبدالله دك الباب، فقد رأينا فيه نعم المدير والوالد والمُربّي والمُعين، ولا أزكي على الله أحدًا.
أرجو الله تعالى أن تعود أيام معهد الشيخ بدر الدين الحسني كسالف عهده، يَغصّ بالعلماء والطلاب، لا كما آلت إليه حاله الآن، فنظام الظلم قد ولّى، وجميع أزلامه وأدواته وأذنابه سيرحلون لا محالة، ولابدّ للظالم من حساب، وأمّا المظلوم فسيعود له حقُّه بإذن الله تعالى عاجلًا غير آجل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.